يعتبر كتاب "الرسالة"، الذي ألّفه الإمام محمد بن إدريس الشافعي، هو أول كتاب أُلِّف في أصول الفقه والحديث؛ وفق ما ذكر الإمام الفخر الرازي في كتابه "مناقب الشافعي" بقوله: "كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلَّمون في مسائل من أصول الفقه، ويستدِلون، ويَعترِضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفةِ دلائل الشريعة، وفي كيفيَّة مُعارضتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي عِلمَ أصول الفقه، ووضع للخلق قانونًا كليًّا يُرجع إليه في معرفة مراتب أدلَّة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي إلى علمِ الشرع كنسبة أرسطو إلى علمِ العقل". أخذ الشافعي العلوم والمعارف عن أهل الحضر، ونبَغ في الحجاز، وكان إلى علمائه مرجع الرواية والسُّنة، وكانوا أساطين العلم في فقه القرآن، ولم يكن الكثير منهم أهل لَسَنٍ وجَدل، وكادوا يَعجِزون عن مناظرة أهل الرأي، فجاء هذا الشاب يُناظِر ويُنافِح، ويعرف كيف يقوم بحُجَّته، حتى سمَّاه أهل مكة: "ناصر الحديث"، وتواترت أخباره إلى علماء الإسلام في عصره، فكانوا يَفِدون إلى مكة للحج، يُناظِرونه ويأخذون عنه في حياة شيوخه، حتى إن أحمد بن حنبل - رحمه الله - جلس معه مرة وترك جلسة شيخه. كتاب "الرسالة" ألَّفه الشافعي مرتين؛ ولذلك يعدُّه العلماء في فهرس مؤلَّفاته كتابين هما الرسالة القديمة، والرسالة الجديدة؛ أما الرسالة القديمة يرجح علماء أنه ألَّفها في مكة استجابة لطلَب عبدالرحمن بن مهدي، الإمام الحافظ العَلَم الذي قال عنه الشافعي: "لا أعرف له نظيرًا في الدنيا"، ولما رجع إلى مصر أعاد تصنيفَ الرسالة. أيًّا ما كان الأمر، فقد ذهبت الرسالة القديمة، وليس في أيدي الناس اليوم إلا الجديدة، فقد أعاد تأليف كتاب "الرسالة" بعد تأليف أكثر كُتبه التي في كتاب "الأم"، وأنه أملاها إملاءً على الربيع المرادي، والشافعي لم يُسمِّ "الرسالة" بهذا الاسم، إنما يُسمِّيها "الكتاب"، ويظهر أنها سُمِّيت "الرسالة" في عصره؛ بسبب إرسالها إلى الإمام عبدالرحمن بن مهدي، الذي قال عنها: "لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتْني؛ لأنني رأيتُ كلام رجل عاقل، فصيح، ناصح، فإني لأُكثِرُ الدعاء له". وتناولت أبواب الكتاب ومساءلة التي عَرَض الشافعي فيها للكلام على حديث الواحد والحُجَّة فيه، وإلى شروط صحة الحديث وعدالة الرواة، وردّ الخبر المُرسَل والمُنقطِع، إلى غير ذلك، وتعتبر أدقُّ وأغلى ما كَتَب العلماء في أصول الحديث، بل يراها المُتفقِّه في علوم الحديث أن ما كتب بعده إنما هو فروع منه، وعالَة عليه، وأنه جمع ذلك وصنَّفه على غير مثال سبق. لذلك "فكُتُبه مُثُلٌ رائعة من الأدب العربي النقي، في الذِّروة العليا من البلاغة، يكتب على سجيَّته، ويُملي بفطرته، لا يتكلَّف ولا يتصنَّع، أفصح نثرٍ تقرؤه بعد القرآن والحديث، لا يُساميه قائل، ولا يُدانيه كاتب، ولا تعلو عليه إلا بلاغة بلغاء الصحابة - رِضوان الله عليهم"، وفق ما قال الشيخ أحمد شاكر، الذي حقق الرسالة الجديدة.