قدم الدكتور أحمد على سليمان عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، بحثًا حول "التعددية والقواسم المشتركة"، وذلك على خلفية انعقاد المؤتمر الدولي ال31، تحت عنوان "حوار الأديان والثقافات"، المقام بأحد فنادق القاهرة، تحت رعاية الرئيس عبدالفتاح السيسي. وقال سليمان: "خلقنا الله تعالى متعددين متنوعين في كل شيء... في اللون، والعرق، واللغة، والفكر، والثقافة، والمهارات، وسخر لنا كلَّ ما في الكون؛ لنتكامل جميعًا في إعماره وتنميته، وإسعاد الإنسان، ولا سبيل إلى التعاون، والتكامل، والتعاضد، إلا بمنهجية ناجعة، تُجلِّي الحقائق، وتوضح وجهات النظر، وتقضي على الغموض واللبس، وتذيب الثلوج، وتقرب المسافات بين سائر البشر". وأشار في وريقات بحثه إلى أنه تبرز الأهمية البالغة لقيم: التعددية، والتنوع، والمسئولية، والقواسم المشتركة (الثقافية، والدينية، والأخلاقية، والحضارية،...) بين سائر البشر، كون هذه القيم كفيلة - حال الإيمان الكامل بها، وتفعيلها لتكون منهج حياة - بإيجاد عالَم آمن وخالٍ من الحروب والصراعات والمشكلات، يسوده التفاهم، والإيمان المشترك بأهمية كل منَّا في الحياة. وتابع: تتعاظم الحاجة إلى الحوار في هذه الآونة أكثر من أي وقت مضى، فبعد أزمة كورونا التي أرعبت العالم، وأربكت الدنيا، وكشفت عن ضعف الإنسان وحاجته إلى التعاون والتكامل لإعمار الكون والحياة، وتعظيم قيمة الحوار بين كل الناس؛ ليعلو صوته، ويسود صداه، ويبلغ مداه كلَّ مكان؛ ليكون بديلًا عن أصوات الذخيرة والمدافع والقنابل. وقال سليمان: إننا في حاجة جدّ ماسة إلى الحوار المثمر البنَّاء الذي يضع البشرية كلها أمام مسئوليتها؛ لإعمار الكون، بدلًا من تدميره، وإسعاد الحياة بدلًا من إتعاسها، ومعالجة مشكلاتها بدلًا من تكثيرها، مؤكدًا حاجتنا لحوار جديد، ينطلق من الإيمان الكامل بالتعددية، والمسئولية، والقواسم المشتركة بين البشر، وما أكثرها في هذه الحياة. ومن خلال المبحث الأول "التعددية"، قال إن التنوع والتعددية سنة من سنن الله تعالى في الكون، والخلق، والحياة؛ لذلك كان هذا التنوع اللامحدود، ملتقطًا صورًا حسية ونفسية لبعض مظاهر التعددية وأشكالها التي أرادها الله تعالى، فهي جزءٌُ لا يتجزأ من مقومات الحياة، وقد تركت للقارئ الكريم أن يتنسم بنفسه عبير الألفاظ القرآنية، ويسبح في مناطق إشعاعها وإيحاءاتها، وبعض أسرارها؛ ليستلهم بعض حِكم الله العالية في مراده، وتدبيره، وتقديره. التعددية في المخلوقات: يقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ...). التعددية في أطوار خلق الإنسان: قال تعالى: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا). (النطفة، ثم الأمشاج حين يمشج النطفة الدم، ثم يغلب الدم على النطفة فتكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظامًا، ثم تكسى العظام لحمًا.. وهكذا)، وياله من إعجاز عجيب حيَّر العقول والألباب عبر العصور..!. تعددية الألسنة، واللغات، وتنوعها: يقول (عز وجل): (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)(. التعددية في القوميات، والأجناس: يقول الحق سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). التعددية في الديانات، والرؤى، والأفكار: يقول سبحانه: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ)، وقال: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ). التعددية في الأشكال، والأنماط البشرية: حيث جعل الله تعالى البشر مكونين من: الرجل والمرأة، الصغير والكبير، الغني والفقير، الطويل والقصير، الأبيض والأسود، المؤمن والكافر.. وهكذا. التعددية الفكرية: في الفهم، والتفكير، والتعبير والأداء بين الأشخاص (فروق فردية بين الناس)، وتعددية في فكر الإنسان نفسه في مراحل حياته المختلفة، بل إن المرحلة الواحدة من حياته يعتريها تعدديات في التفكير. وفيما يتعلق بفقه قراءة الآخر وأهمية التحاور معه، قال إننا في مسيس الحاجة إلى أن يطّلع كل منا على فكر الآخر، ويستقرئه بتأن وروية وتجرد.. دون إصدار أحكام مسبقة؛ فالمخالف لك هو مرآتك، وغالبا ما يرى فيك ما لم تره أنت في نفسك، وربما لا يراه مَن هو على شاكلتك وفكرك واتجاهك؛ لذلك تنبع أهمية ثقافة التعددية وتطبيقها وأن يُحسنَ كلُّ واحد منا الظن بالآخر، فمخرجاته العقلية التي قد تخالف فكرك هي نتاج العقل الذي مازنا الله به عن غيرنا من المخلوقات، وقد تكون نتيجة خطئك أنت، وقد تنير لك دروبًا مهمة على طريق الصلاح والإصلاح والنجاح، وصدق الله القائل: (...وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ...). ولفت إلى أنه لأجل التأكيد الدائم والمستمر على أهمية التعددية؛ فقد أكد الخالق العظيم على الشورى، وجعل لها مكانة سامقة في الإسلام، باعتبارها من العوامل الداعمة للتعددية على الدوام، فالمهم هو التخلص من أحكامنا السلبية المسبقة على الآخر، وتخلص الآخر من أحكامه المسبقة علينا، والتخلص من التعميم، ومن الاستعلاء الفكري أو الاستعلاء بمعناه الشامل على الآخر المخالف في الفكر، أو اللون، أو العرق، أو الدين. وأكمل: أعجب من هؤلاء الذين يناصبون المخالف العداء والتجريح لمجرد اختلافهم معه فكريًّا، وربما لم يطلعوا على فكره من الأساس!! فالاختلاف والتعددية مزية ما بعدها مزية، فهما إثراء للحياة. وشدد على أن أختلف مع أي إنسان في جزئية أو جزئيات، ولكن اختلافي هنا هو اختلاف مع أفكاره، وليس على شخصه الذي يجب أن يكون له كامل الاحترام، لافتا أن أفكارنا ليست كلها ثابتة على الدوام؛ بل هي متطورة، وقد تتغير بتطور الحياة والمواقف والخبرات، فما تراه صائبًا في القديم قد لا تراه كذلك في الوقت المعيش، وهكذا. فيما جاء المبحث الثاني "القواسم المشتركة.. قاطرة المنظومة العالمية للأخلاق"، ليؤكد أن المشتركات الإنسانية (الثقافية والدينية)، هي الحبال الموصولة بين شتى المكونات البشرية، وهي الرابط المتين، والداعم لقاطرة الحوارات الناجعة والعلاقات الإنسانية الرشيدة. وقال إن المشترك الديني يعد أساسًا "للرؤية الكبرى" التي يمكن أن تحدد إطار وملامح منظومة عالمية للأخلاق، والمنظومة العالمية للأخلاق تعد مدخلًا للحوار الناجع، ولعلاقات أفضل بين شعوب العالم في المجالات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والبيئية، والتكنولوجية، والفكرية والثقافية...إلخ. من أجل ما يلي: -إظهار ما بين مختلف الحضارات والثقافات، والرسالات السماوية من معانٍ وأحكام، وقيم مشتركة مثلت قواسم موحدة للحياة. -توظيف رؤية المشترك في إثراء التجربة الإنسانية والحضارية بشكل عام. -توظيف المشترك في تطوير العلاقات بين مختلف الدول والشعوب وتنميتها. -بيان المشترك في المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والقانونية بهدف تحقيق وحدة الإنسانية، وإقامة العلاقات الدولية على أسس سليمة وتعاونية.. لذلك فإن التعرف على مفهوم المشترك، وجذوره، وتطوره التاريخي، وأنواعه من الأهمية بمكان، فالمشترك الديني باعتباره أساسًا لمنظومة عالمية للأخلاق يمكن أن يتضمن الموضوعات الآتية: - التشريعات الدينية وأثرها في تدعيم منظومة القيم وإرساء مبادئ الأخلاق. - المشترك الإنساني في مجال حماية البيئة، يمكن أن يوحد أهداف العالم إزاء هذه القضية وما يستجد، من خلال مبادئ حماية البيئة في التشريع الإسلامي، والميراث الإنساني لمختلف الأديان، وحماية البيئة على ضوء المستجدات الدولية، ومشكلات التغيرات المناخية والبيئة. وثمة سلسلة من الموضوعات يمكن أن تشملها قاطرة المشترك الإنساني، والمبادئ والمشتركات الاقتصادية التي أرستها الأديان السماوية والحضارات الإنسانية، ومن بينها: العدالة التعويضية، وتحريم الاستغلال والظلم والغش والاحتكار، وأيضًا المشترك القانوني في الشريعة الإسلامية والقانون الروماني وغيرهما، وكذلك المشترك الثقافي كالمبادئ الموجهة للثقافة في مختلف الحضارات، والأخلاقيات الحاكمة لثقافة البشر في الحضارات، والمشترك الثقافي في مجال الفنون والآداب بمختلف أنواعها. وأقترح عضو الشئون الإسلامية إنشاء (مركز عالمي لدراسات وبحوث المشترك الإنساني) بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية. وتتلخص أهميته في أن المشترك الإنساني – كما نعلم - مخرج آمن للبشرية، وسبيل معتدل لدعم الحوار والعيش المشترك. وبين لان الاعتماد على فكرة المشترك الإنساني، والقواسم المشتركة بين الحضارات والثقافات والأديان؛ سيسهم في بناء العلاقات الإنسانية وترسيخها على مبادئ الأخوة الإنسانية. - ترسيخ نظرية المشترك الديني والثقافي بين الحضارات والمجتمعات في أنحاء العالم، من الأهمية بمكان؛ لتعظيم التفاهم، وإطفاء الخلافات، وجبر الخواطر، وتحقيق التقارب والتعاون المنشود، ومن ثم إيجاد بيئة متينة خالية من الصراعات، ومواتية لعمليات التقدم والإقلاع الحضاري. وتتعاظم أهمية هذا المركز العالمي المقترح في وسط تفاقم ظاهرة "الإسلاموفوبيا" في الغرب، والتطرف ضد الإسلام، وتصاعد عمليات العناد وسوء الفهم، التي تسهم في توسيع الفجوات والهوّات بين الدول والحضارات والثقافات، ومن ثم فإن نظرية (المشترك الإنساني) تعد منطلقًا لجهد دولي نشط؛ لتحقيق التصالح الحقيقي بين الحضارات، والديانات، والثقافات.