إذا كان الفرنسيون قد عاشوا ليلة حزينة مع السنة النيران وأعمدة الدخان جراء الحريق المروع الذي اندلع مساء أمس الأول "الاثنين" في كاتدرائية نوتردام، فإن المصريين شاطروهم الأحزان الصادقة، وهم يشعرون بالصدمة والأسى العميق حيال ما تعرض له صرح روحي وتاريخي يعد بحق أيقونة ثقافية عالمية فيما جاءت الأحزان المصرية "كاشفة لعمق وحجم وقوة الروابط الوثيقة والعلاقات الحميمة والوشائج الثقافية والحضارية مع الشعب الفرنسي الصديق". وفيما أعربت مصرعن تضامنها مع فرنسا في مواجهة هذه الفاجعة التي تعرضت لها كاتدرائية نوتردام في قلب العاصمة الفرنسية باريس فإن هذا التضامن تجلى على كل المستويات الرسمية والشعبية وشمل بوضوح النخب الثقافية ورجل الشارع معا. وهكذا لم يكن من الغريب ان يتحدث المصريون بكل الحزن والأسى عن هذه الكاتدرائية الشهيرة التي بدأ العمل ببنائها في القرن الثاني عشر ليستغرق نحو قرنين وتتحول كاتدرائية نوتردام إلى جزء عزيز من قلب باريس التي تشكل في الواقع "قصة عشق للعديد من المثقفين المصريين والعرب ككل". وباهتمام واضح ، تابع المصريون جهود رجال الإطفاء في إخماد الحريق في كاتدرائية نوتردام بالكامل امس "الثلاثاء" بعد نحو 15 ساعة على اندلاع الحريق المروع الذي امتد بسرعة كبيرة للسقف الخشبي لهذا الصرح الروحي والثقافي والتاريخي العالمي والذي التهم جانبا كبيرا من الكاتدرائية التي "تشكل جزءا عزيزا من الذاكرة الباريسية لمثقفين مصريين". والمسلة المصرية التي تنتصب في ساحة الكونكورد الباريسية منذ الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1836 بعد رحلة طويلة من الأقصر في صعيد مصر وصلت فيها عبر نهر السين للعاصمة الفرنسية ليست بعيدة عن كاتدرائية نوتردام سواء على مستوى المكان أو على مستوى الرمزية المتوهجة للعلاقات الثقافية والحضارية بين المصريين والفرنسيين. وطوال ساعات التصدي للحريق المروع لاخماده، اتجهت قلوب المصريين بالدعاء لإنقاذ هذا المعلم الروحي والحضاري والمعماري الفريد الواقع في منطقة تتوسط جزيرة صغيرة في نهر السين، ويعد أحد أعرق الشواهد التاريخية الباريسية، فيما كان الضررالأفدح "انهيار سهم الكاتدرائية وهو برج مدبب مزين بنقوش صممها في القرن التاسع عشر المعماري الفرنسي اوجين فيوليه لودوك". ورغم أي خسائر مادية فقد تمكن رجال الإطفاء من انقاذ كاتدرائية نوتردام قبل دقائق تتراوح مابين ربع الساعة ونصف الساعة من الانهيار الكامل لهذا الصرح الروحي والثقافي بحسب ماكشفت عنه السلطات الفرنسية امس "الثلاثاء" لتلقي ضوءا على طرف من شجاعة رجال خاطروا بأرواحهم لإنقاذ معلم من معالم الإنسانية كلها. وأن حق القول بأن كاتدرائية نوتردام رمز لباريس وتبدو في قلوب أهلها حارسة لمدينة النور كما أنها مقصد السائحين من كل مكان في العالم فإن من الحق أيضا القول بأن هذه الكاتدرائية منحت الهامات ثقافية متعددة عبر تاريخها المديد ولم يكن الفنان والمصمم المعماري الإنجليزي اوجستوس بيوجين الذي عاش في القرن التاسع عشر هو وحده من تغنى بجماليات العمارة لهذا الصرح الذي يقترن في الذاكرة الثقافية المصرية بباريس ويقصده المصريون عند أي زيارة للعاصمة الفرنسية بمعالمها الحضارية والتاريخية المتعددة. وكثير من الأدباء والمبدعين الفرنسيين الذين تفاعل معهم مثقفون مصريون كتبوا عن كاتدرائية نوتردام مثل الروائي والقاص الفرنسي الشهير مارسيل بروست الذي ولد في العاشر من يوليو عام 1871 وقضى في باريس يوم الثامن عشر من نوفمبر عام 1922. وبروست صاحب رائعة "البحث عن الزمن المفقود" بمجلداتها الروائية السبعة التي وقع في هواها الكثير من عشاق الأدب في مصر أحد المبدعين الذين وقعوا في هوى جمال نوتردام وهو ماطال أيضًا عالم النفس الشهير سيجموند فرويد والذي قال عندما رأى هذه الكاتدرائية لأول مرة في عام 1885: "تولد داخلي شعور لم أعرفه من قبل". وقائمة المبدعين والعلماء الذين انبهروا بهذا الصرح الروحي والحضاري طويلة، وتضم أسماء شهيرة وخالدة في تاريخ الثقافة والأدب مثل فيكتور هوجو الذي تأثرت أجيال من المثقفين المصريين بكتاباته شأنه في ذلك شأن مفكرين وأدباء فرنسيين مثل فولتير وروسو وسارتر والبير كامو واندريه جيد واندريه مالرو و سيمون دي بوفوار فرانسواساجان. وإن شكلت كاتدرائية نوتردام ايقونة باريسية بقدر ماهي عالمية ، فكثيرا ما تحدث مثقفون مصريون وعرب عن باريس بصورة اقرب للغزل باعتبارها "باريس كريستيان ديور وايف سان لوران ونهر السين وبرج ايفل ونوتردام والكوت دازور وموناليزا اللوفر والمولان روج ورقصة الكان كان ولوحات مونيه ومانيه وتولوز لوتريك وذكريات مسرح سارة برنار وروايات كوليت وبارفان كوكو شانيل". انها باريس " حدائق التويليري ومرحبا ايها الحزن لفرانسواز ساجان وعشق سارتر لسيمون دي بوفوار وسجن الباستيل وفيكتور هوجو وجان فالجان وجاذبية ايف مونتان ومقاهي مون مارتر والشانزلزيه ومطعم مكسيم والحي اللاتيني". وفي باريس شيء ما يثير خيال الشعراء والكتاب والمبدعين المصريين والعرب، مثل الشاعر والكاتب المصري فاروق جويدة الذي يقول "كان فيكتور هوجو صادقا حين قال ان باريس عاصمة الكون وبقية الدنيا ضواحيها، وكان طه حسين مبهورا بها وهو يقول إنها مدينة الجن والملائكة" ثم أن عميد الأدب العربي عرف الحب مع سوزان الفرنسية التي كانت زوجته ورفيقة عمره وحياته. ويعيد جويدة للأذهان حديث الكاتب الكبير توفيق الحكيم في مذكراته عن فتاة المسرح التي أعجب بها وكانت تبيع التذاكر كما أن أمير الشعراء أحمد شوقي كان مبهورا بباريس، وقد نقل هذا الحب الى موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وكان متيما بباريس. ولئن استخدم مثقفون فرنسيون مثل روبير سوليه كلمة "الغرام" في معرض تناوله لمشاعر الفرنسيين حيال مصر، فكثيرا ما تحدث مثقفون مصريون عن باريس بصورة أقرب للغزل وبين الحربين العالميتين الأولى والثانية، أبدع مثقفون مصريون بالفرنسية ومن بينهم الكاتبة قوت القلوب الدمرداشية والشاعر أحمد راسم ناهيك عن جورج حنين واستقبلوا بكل الود الكتاب الفرنسيين الذين زاروا مصر. فمن المنظور التاريخي الحديث هناك من الكتاب والروائيين والشعراء المصريين من كتب بالفرنسية مثل جورج حنين أو البير قصيري ورمسيس يونان كأسماء كبيرة من المنظور الثقافي التاريخي، كما أن للغة الفرنسية حضورها العريق في الجماعة الثقافية المصرية. والفرنسيون يتحدثون في منابرهم الثقافية عن "النسمات العطرة من مصر" في سياق الإشارة لمثقفين ومبدعين مصريين كبار مثل النوبلي نجيب محفوظ، فضلا عن اسماء حاضرة في أدب وفن البلدين الصديقين مثل البير قصيري واندريه شديد وداليدا وعمر الشريف وأم كلثوم ويوسف شاهين. ومثقف وأكاديمي ودبلوماسي مصري كالراحل العظيم بطرس غالي تحدث كثيرا عن التفاعل الثقافي بين المصريين والفرنسيين، وقال: "ربطتني حوارات عدة بالكاتب ألبير كامو أيام كنت طالبا في باريس وأتذكر طويلا ما كان يقوله عن أهمية ربط جنوب البحر المتوسط بشماله". وأكثر من تأثر به الدكتور بطرس غالي في هذا السياق من التواصل الثقافي كان المستشرق الفرنسي ماسينيون الذي أصدر عدة مجلات وصحف في مصر وكان عضوا في المجمع اللغوي المصري فيما أشار غالي إلى ميله شخصيا "للمدرسة التأثيرية الفرنسية". وفيما تشكل كاتدرائية نوتردام "تحفة معمارية وآية من ايات الجمال الفني" فإن الدكتور بطرس غالي الذي كان أول أمين عام لمنظمة الفرانكفونية قال :"في الفنون التشكيلية أجدني مشدودا إلى جوجان وماتييس وفي الأدب أحب البير كامو وفي الموسيقى دي بوسيه ورافاييل". وإذ وصف الأديب والبرلماني المصري يوسف القعيد مدينة باريس "بالفاتنة التي لا حد لجمالها" فانه يعيد للأذهان دور باريس في التكوين الثقافي لمبدعين كبار في قامة وقيمة ارنست هيمنجواي متفقا في رؤيته مع مثقفين مصريين وعرب يصفون باريس "بمدينة الأنوار وعاصمة الأدباء والشعراء والمسرحيين والفنانين الذين جاءوا اليها من كل انحاء العالم لكي يبدأوا منها الطريق إلى الشهرة". إنها المدينة التي جذبت أسماء ثقافية خالدة ومبدعين كبار: ارنست هيمنجواي وجيمس جويس وجورج اورويل وابولينيروالروماني ايونسكو واللبناني جبران خليل جبران وهنري ميللر وراينر ماريا ريلكة وصامويل بيكيت والنوبلي الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز وجيمس بالدوينو رالف امرسون وعزرا باواند وطه حسين وتوفيق الحكيم"، وكل هؤلاء المبدعين والمثقفين الكبار جعلوا باريس حاضرة الأدب المعاصر كما عرفوا كاتدرائية نوتردام كايقونة ثقافية وصرح روحي ومعماري". ولايجوز تناسي أن مثقفين فرنسيين قاموا بدور مشهود في المشروع التحديثي المصري لمحمد علي فيما قام عالم فرنسي هو "شامبليون" بحل رموز اللغة الهيروغليفية وكذلك قام فرنسي آخر هو "مارييت" بتأسيس مصلحة الآثار المصرية. والذاكرة الثقافية حافلة بأسماء مثقفين وكتاب فرنسيين اهتموا عبر التاريخ المديد بالكتابة عن مصر مثل الكاتب والشاعر جيرار دي نرفال وجوستاف فلوبير وماكسيم دي كان والدوق داركور صاحب كتاب "مصر والمصريون". وباريس التي تقع كاتدرائية نوتردام في قلبها تنبض دوما بالحياة والإبداع وتلهم الثقافة الغربية ككل التي تنتج إصدارات هامة على هذا الصعيد مثل كتاب "في المقهى الوجودي" لساره باكويل ويتحدث عن عصر انتشرت فيه الفلسفة الوجودية وتوهجت أسماء أعلام هذه الفلسفة وفي طليعتهم جان بول سارتر ورفيقته في مسيرة الحياة سيمون دي بوفوار. وهذا الكتاب لسارة باكويل بمثابة "بورتريه مشترك يجمع مابين أهم أعلام الفلسفة والفكر الوجودي في الغرب خلال القرن العشرين فيما توهج خيال المؤلفة لتتصور أن هؤلاء الأعلام قد اجتمعوا معا في مقهى وأحد تمنت أن يكون أحد المقاهي الباريسية التي اشتهرت في زمن توهج الفلسفة الوجودية وذيوع شهرة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر. وهكذا تتردد في هذا الكتاب الهام أسماء لفلاسفة ومفكرين كبار في الغرب مثل مارتن هيدجر وموريس ميرلو-بونتي وكارل يسبرس وحنة اردنت والبرت كاموس، فيما تتناول المؤلفة معاني وظلال الفلسفة الوجودية التي تعني في احد جوانبها "حرية ابتكار النفس مع تحمل المسؤولية الشخصية لكل انسان عن خياراته وأفعاله وتصرفاته" وهذا هو المفهوم الذي تبناه الثنائي الوجودي الأشهر سارتر-سيمون دي بوفوار. ومع إن سارة باكويل سعت لابتكار "مقهى وجودي" بعين الخيال ليجمع بين اقطاب واعلام هذه الفلسفة ، فانها لم تغفل الواقع الذي يقول إن مقاهي باريس شهدت بالفعل مولد اعظم افكار الفلسفة الوجودية منذ عام 1932 عندما كان يرتادها جان بول سارتر ليدخل في حوارات مع مفكرين ومثقفين من بينهم صديقه ريمون ارون. وفي ظل التفاعل الثقافي بين العرب والفرنسيين والحضور المتوهج لباريس في الذائقة الثقافية العربية، لم يكن من الغريب أن تصدر الكاتبة السورية المقيمة في فرنسا هدى الزين أيضا كتابا بعنوان: "المقاهي الأدبية في باريس.. حكايات وتاريخ". وإذا كانت باريس من أشهر مدن العالم وأكثرها توهجا في ظاهرة المقاهي المسرحية والفلسفية، فإن هدى الزين تقدر عدد هذه المقاهي في فرنسا بلغ نحو 150 مقهى بينما تتوقف سارة باكويل في كتابها عند دور المقاهي في بناء صداقات وثيقة بين فلاسفة وجوديين كبار مثل جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وموريس ميرلو-بونتي موضحة أن تلك المقاهي الباريسية تشكل جزءا حميما من المجال العام والفضاء الثقافي. وفي كتابها، تشير الكاتبة السورية هدى الزين إلى أن المدارس الواقعية الاجتماعية في الأدب والمنطقية والوجودية في الفلسفة انطلقت من المقاهي الأدبية في باريس وارتبطت هذه المقاهي بالتيارات الفكرية التي شهدتها فرنسا في فترة ذهبية من تاريخها الأدبي والفكري والفني لافتة إلى أن بعض مشاهير الأدب العربي مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وسهيل إدريس والبير قصيري كانوا يترددون على مقهى "كلوني" الباريسي. والآن، فإن المصريين يتطلعون لاستعادة كاتدرائية نوتردام لكامل رونقها وإزالة كل آثار الحريق المروع أملين أن تنبض دوما في قلب باريس.. أنه نبض الحب الذي يجمع بين شعبين صديقين.. فسلام على باريس وأيقونة باريس وغدا يتألق الجمال من جديد وتحمل المدينة الجميلة كل جديد في الإبداع الإنساني.