توريد 43 ألف طن قمح لصوامع التموين بالإسكندرية    الأسهم الأوروبية تغلق عند مستويات قياسية جديدة    شاهد أول فيديو.. «النقل» تستعرض المحطات الخمسة الجديدة للخط الثالث لمترو الأنفاق    وزيرة التعاون الدولي: الحكومة تتبنى إجراءات وتدابير محفزة للشركات الناشئة    العمالة المصرية على موعد للعمل في اليونان.. اعرف التفاصيل    إعلام عبري: حماس تطلق الصواريخ على إسرائيل بنفس قوة الأسابيع الأولى من الحرب    انتصار السيسي وحرم سلطان عمان تزوران مستشفى 57357 -(صور)    ليلة دامية.. آخر التطورات الميدانية والعسكرية في رفح الفلسطينية    حماس: تعاملنا بكل مسؤولية وإيجابية لتسهيل الوصول لاتفاق يحقق وقف دائم لإطلاق النار    محافظ الإسكندرية ووزير الشباب يفتتحان بطولة الجمهورية للفروسية (صور)    محمد شريف يقود الخليج أمام الوحدة في الدوري السعودي    بطولة العالم للإسكواش 2024.. يحيى النواسانى يتأهل للدور الثانى    خلافات أسرية.. حبس المتهم لشروعه في قتل زوجته طعنًا بالسكين في العمرانية    جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 بصيغة pdf وخطوات الحصول على أرقام الجلوس    مصرع فتاة خنقًا في ظروف غامضة ببني سويف    مصرع طالب سقط من القطار بسوهاج    بسمة بوسيل تكشف عن مفاجأة بشأن تامر حسني بسبب «البدايات» (تفاصيل)    رئيس جمهورية اليونان تزور مكتبة الإسكندرية (صور)    القومي لحقوق الإنسان يشارك في إطلاق دورة مهرجان إيزيس لمسرح المرأة    د.آمال عثمان تكتب: المتحف المصري الكبير الأحق بعرض «نفرتيتي» و«حجر رشيد» و«الزودياك»    5 نصائح مهمة للمقبلين على أداء الحج.. يتحدث عنها المفتي    المفتي يحسم الجدل بشأن حكم إيداع الأموال في البنوك (فيديو)    شاهد| حسام موافي يوضح خطورة سقوط صمام القلب    خريطة قوافل حياة كريمة الطبية حتى 16 مايو.. الكشف والعلاج مجانا    12 عرضا تدل على الإصابة بأمراض الكلى    فضائل شهر ذي القعدة ولماذا سُمي بهذا الاسم.. 4 معلومات مهمة يكشف عنها الأزهر للفتوى    نقيب المهندسين: نستهدف تعزيز التعاون مع صندوق الإسكان الاجتماعي    نائب رئيس جامعة الزقازيق يشهد فعاليات المؤتمر الطلابي السنوي الثالثة    بعد زواجه من الإعلامية لينا طهطاوي.. معلومات لا تعرفها عن البلوجر محمد فرج    أسعار شقق جنة بمشروع بيت الوطن للمصريين في الخارج    بالصور.. الشرقية تحتفي بذكرى الدكتور عبد الحليم محمود    الجيزاوي يتفقد مستشفى بنها الجامعي للاطمئنان على الخدمة الصحية    بالصور.. تشييع جثمان والدة يسرا اللوزي من مسجد عمر مكرم    أشرف صبحي يلتقي فرج عامر وأعضاء سموحة لتعزيز الاستقرار داخل النادي    واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن العامة، الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة القادمة    للتخلص من دهون البطن.. تعرف ما ينبغي تناوله    نادال: ريال مدريد لم يهزم بايرن ميونخ بالحظ    "علم فلسطين في جامعة جورج واشنطن".. كيف دعم طلاب الغرب أهل غزة؟    السيطرة على حريق شقة سكنية بمنطقة الوراق    أوكرانيا: روسيا تشن هجوما بريا على خاركيف وإخلاء بلدات في المنطقة    وزارة البيئة تناقش مع بعثة البنك الدولي المواصفات الفنية للمركبات الكهربائية    محافظة الأقصر يناقش مع وفد من الرعاية الصحية سير أعمال منظومة التأمين الصحي الشامل    مفتي الجمهورية: الفكر المتطرف من أكبر تحديات عملية بناء الوعي الرشيد    محلل أداء منتخب الشباب يكشف نقاط قوة الترجي قبل مواجهة الأهلي    حملة بحي شرق القاهرة للتأكد من التزام المخابز بالأسعار الجديدة    دعاء الجمعة للمتوفي .. «اللهم أنزله منزلا مباركا وأنت خير المنزلين»    بدء جلسات اجتماع اللجنة الدائمة للقاء بطاركة الكنائس الشرقية الأرثوذكسية في الشرق الأوسط    في محكمة الأسرة.. حالات يجوز فيها رفع دعوى طلاق للضرر    رد فعل محمد عادل إمام بعد قرار إعادة عرض فيلم "زهايمر" بالسعودية    مصرع وإصابة 4 أشخاص في اصطدام سيارة بكوبري في الغربية    فضل يوم الجمعة وأفضل الأعمال المستحبة فيه.. «الإفتاء» توضح    القسام تعلن مقتل وإصابة جنود إسرائيليين في هجوم شرق رفح الفلسطينية    463 ألف جنيه إيرادات فيلم فاصل من اللحظات اللذيذة في يوم واحد بدور العرض    شخص يطلق النار على شرطيين اثنين بقسم شرطة في فرنسا    الناس بتضحك علينا.. تعليق قوي من شوبير علي أزمة الشيبي وحسين الشحات    لمواليد 10 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    اللواء هشام الحلبي يكشف تأثير الحروب على المجتمعات وحياة المواطنين    نهائي الكونفدرالية.. تعرف على سلاح جوميز للفوز أمام نهضة بركان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الموائد الرمضانية.. مفاهيم سامية للتضامن والتكافل
نشر في البوابة يوم 26 - 05 - 2018

تحمل الموائد الرمضانية هذا العام الكثير من الرسائل الرمزية الثقافية للتواصل الوجداني الوطني والقومي بقدر ما تعيد للأذهان طرائف وقصص وحقائق متصلة بالثقافة الغذائية أو ما يعرف بثقافة المطبخ.
وإذ تتجلى العلاقة بين الثقافة والغذاء والهوية في تلك الأيام المباركة، أو التي يصفها التعبير المصري الدارج والعبقري ب"الأيام المفترجة"، فإن هذا الشهر الكريم يشهد مبادرة تتصل بالموائد الرمضانية هي مبادرة "المصريين بالخارج.. فطارنا مع أهالينا"، وتحمل العديد من الرسائل الرمزية الثقافية للتواصل الوجداني الوطني بين المصريين في كل مكان.
وكانت السفيرة نبيلة مكرم وزيرة الدولة للهجرة وشئون المصريين بالخارج قد أعلنت عن إطلاق الوزارة لمبادرة "المصريين بالخارج.. فطارنا مع أهالينا" خلال الشهر الفضيل، موضحة أنها تقوم على إعداد موائد رمضانية في مختلف المحافظات من مساهمات الجاليات المصرية المقيمة بالخارج.
وفكرة المبادرة كما قالت السفيرة نبيلة مكرم تعبر عن الروح الوطنية للمصريين بالخارج وشعورهم بالمسئولية تجاه وطنهم فيما كانت قد افتتحت مع الدكتور علي جمعة رئيس مجلس أمناء مؤسسة "مصر الخير" أول مائدة رمضانية تحت شعار "نحن معا" في سياق هذه المبادرة التي تجسد التعاون بين مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني وحظيت بمجرد الإعلان عنها بدعم المصريين في الخارج باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من نسيج الوطن الأم.
ولئن عبرت هذه المبادرة عن "التراحم والتكافل والتضامن والتواصل الوجداني" بين المصريين أينما كانوا وبين وطنهم، فالأمر متصل أيضا بمعاني "رمضان المصري ومذاقه المتفرد" التي تتبدى في الواقع والطقوس والعادات المصرية في الشهر الكريم بما في ذلك موائد الإفطار والسحور؛ من صحن الفول وحتى البط والمحاشي مرورا بقمر الدين والتمر والخشاف والخروب والتمر هندي والكنافة والقطائف والزبادي ناهيك عن الطرشي.
وإذا كان الطعام في ثقافات عديدة يقترن بقدر من البهجة كما يشير كتاب صدر بالانجليزية لكين الابالا وعنوانه "قاريء تاريخ الغذاء: مصادر أساسية"، فمن نافلة القول إن الموائد الرمضانية المصرية تنبض بعناوين البهجة.
ومؤلف هذا الكتاب هو مؤرخ متخصص في تاريخ الغذاء وهو هنا يتطرق إلى طقوس البهجة عندما يجتمع البشر معا لتناول الطعام كما يتحدث عن اتجاهات الثقافات المختلفة حيال الغذاء، ويوضح أن "الغذاء يساعد في تعريف الهوية"، فيما التاريخ الغذائي لمجموعة انسانية ما يكشف الكثير عن ثقافتها.
والموائد الرمضانية المصرية مبهجة سواء كانت بسيطة أم باذخة وتتفق في جوهرها الإنساني المعبر عن مفاهيم "جمع الشمل واللمة"، كما تعبر "موائد الرحمن" عن مفاهيم سامية للتضامن والتكافل بين أبناء الوطن الواحد كما يتسع نطاقها باتساع معانيها لتشمل التواصل الوجداني القومي والتضامن المصري مع الأشقاء الفلسطينيين في قطاع غزة، كما يتجلى في أسطول المساعدات الغذائية المصرية لسكان القطاع تخفيفا لحدة الأعباء عليهم خلال الشهر الفضيل.
وتلك المساعدات الغذائية المصرية التي تتحول إلى موائد رمضانية للأشقاء الفلسطينيين في قطاع غزة بكثافته السكانية العالية بقدر ما تخفف من حدة معاناة هؤلاء الأشقاء المكلومين بقدر ما توميء أيضا في رسائلها الرمزية لحقيقة أن مصر الكبيرة التي لا تعرف المزايدات والتي قدمت آلاف الشهداء دفاعا عن حقوق الشعب الفلسطيني لم ولن تتخلى عن دعم هذا الشعب الشقيق حتى يستعيد حقوقه المشروعة ويقيم دولته المستقلة.
ولعل الموائد الرمضانية تستدعي أيضا ذكريات عزيزة اليوم عن حرب العاشر من رمضان عام 1973 وهو الحدث العظيم الذي تحل ذكراه اليوم ويقول الدكتور سمير فرج: "عندما تجمعنا مائدة طعام الإفطار في رمضان كل عام نتذكر هؤلاء الأبطال الذين عبروا القناة واستردوا لمصر كرامتها وعزتها وشرفها وقاتلوا في شهر رمضان المبارك".
ويتابع الدكتور سمير فرج محافظ الأقصر الأسبق والذي كان في حرب العاشر من رمضان أحد ضباط هيئة عمليات القوات المسلحة :"اذكر دخول الرئيس محمد أنور السادات علينا قبل بدء الضربة الجوية ومن خلفه جنود يحملون صواني رصت عليها الشطائر والعصائر وابلغنا بأن فضيلة المفتي اصدر فتواه بجواز افطارنا في رمضان لأننا في جهاد للدفاع عن بلدنا مصر وبدأ الجنود في توزيع الوجبات" مضيفا :و"مع ذلك لم يفطر أي منا الا بعد التاسعة مساء فقد اشبعتنا حلاوة اخبار سقوط نقاط خط بارليف وعبور قواتنا للقناة".
وفي طرح نشرته جريدة "الأهرام" يتحدث الدكتور سمير فرج الذي تولى من قبل أيضا رئاسة دار الأوبرا المصرية عن قالب "الفولية" الذي كان "تعيين القتال" أي الغذاء للمقاتلين على الجبهة في بداية ايام حرب العاشر من رمضان وينقل عن صديقه المقاتل محسن السلاوي قوله انه أخذ "أول قضمة من قالب الفولية في العاشرة مساء بعد العبور وتدمير نقاط خط بارليف واندفاعه في سيناء".
ومن القواعد الرمضانية المتوارثة لدى الكثير من الصائمين بدء الافطار بتناول الحساء بعد التمر والماء، فيما تعتبر الطريقة الأمثل لأمعاء الصائم الخاوية لأن البدء بسوائل يريح المعدة بعد ساعات طويلة من الصيام ويجهزها للأطباق الرئيسية.
وإذا كان التمر جزء أصيلا من التقاليد الغذائية الرمضانية، فمنطقة الواحات في مصر تقدم أجود أنواع التمور للعالم، فيما تفيد بيانات منشورة أن اجمالي انتاج الواحات البحرية وحدها من التمر يصل الى 30 ألف طن سنويا، فمن الطريف والدال أن تنشر صحف كبرى في الغرب مواضيع عن التمر كغذاء رمضاني أصيل وأن تتحدث جوليا موسكين في أحد هذه المواضيع بجريدة "نيويورك تايمز" عن "التمر بالكريم والفستق المبشور"، وتستعرض انهماك ربات البيوت العربية في افانين المأكولات الرمضانية.
وتقول الصحفية الأمريكية الشهيرة ان التمر علامة رمضانية أصيلة كما أنه يوحد غذائيا كل المسلمين مهما تناءت أماكن اقامتهم في الدنيا الواسعة، مشيرة الى ان النخيل وهو مصدر البلح يرمز ثقافيا للحفاوة والكرم والطمأنينة والسلام.
ولفتت الى ان المسلمين في كل انحاء العالم يحرصون على بدء افطارهم بتناول التمر تأسيا واقتداء بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فيما تتفنن بعض الفنادق والمطاعم التي يرتادها المسلمون في الغرب في تقديم التمر بصيغ متنوعة وحداثية غير أن المبدأ الرئيس يبقى: "لا إفطار بلا تمر".
وإذا كانت صحف الغرب تبدي اهتماما كبيرا بالثقافة الغذائية الرمضانية فلن يكون من الغريب أن تتباري الصحف ووسائل الإعلام المصرية والعربية في تقديم الوصفات لأشهى المأكولات على مائدة رمضان من المحاشي وطاجن البامية باللحم حتى "طاجن الدجاج بالزيتون والطماطم" و "العجة الإسبانية" مع مواضيع وتحقيقات طريفة عن "بتاو الصعيد" و"بط دمياط" و"الفطائر السيناوية المصنوعة من الطحين والسمن" ناهيك عن "الفتة التي يعلوها الأرز واللحم واللوز وحمص الشام".
وإذ يسعى بعض مشاهير الطهاة العرب لتقديم الأطباق التقليدية في قالب عصري وانتقل بعضهم لكبريات مدن الغرب مثل لندن ونيويورك وباريس وباتوا معروفين في اوساط "ذواقة الأكل" فإنهم في الواقع "سفراء للأطباق العربية في الغرب" كما يتجلى على سبيل المثال في تناول صحيفة نيويورك تايمز للمأكولات الرمضانية.
ولئن تبارت الصحف ووسائل الإعلام في تقديم مواضيع مميزة عن الموائد الرمضانية وبعض المطاعم التاريخية التي تجذب المشاهير وثقافة المطبخ والابتكارات في اطباق شعبية "كطبق الفول" فقد تكون بعض "المواضيع الصحفية الرمضانية المتصلة بثقافة المطبخ" سببا في انطلاقة بعض الصحفيين كما يشير الكاتب الصحفي السوري الأصل عرفان نظام الدين والذي يعد أحد نجوم الصحافة العربية المعاصرة.
ففي كتابه "ذكريات وأسرار 40 عاما في الاعلام والسياسة" يستدعي الصحفي الكبير عرفان نظام الدين ذكريات البدايات في الصحافة أو "بلاط صاحبة الجلالة" عندما دلف لجريدة الحياة في بيروت عام 1964 والتي كان رئيس تحريرها حينئذ كامل مروة وهو أحد رواد الصحافة العربية الحديثة ويلقبه تلاميذه ومن بينهم عرفان نظام الدين "بالمعلم" فيما كلفه بموضوع صحفي بدا له غريبا "ولم يهضمه حتى انه اعتقد ان المعلم يمازحه" على حد قوله.
فقد طلب كامل مروة من الصحفي المبتدئ عرفان نظام الدين أن يعد موضوعا عن "تكلفة صحن الفتوش" وهو صحن من أنواع الخضار والسلاطة والخبز الجاف ويعتبر "طبقا رئيسيا في لبنان وسوريا اثناء شهر رمضان".
كان مغزى طلب رئيس التحرير الكبير من الصحفي المبتديء والحاصل على إجازة بتفوق في العلوم السياسية "ان يعرف كيف يعيش الناس وان يسمع وينتبه لصوت الناس لأن الصحافة هي صوت الناس" ومن هنا قال له :"يابني ضع شهادتك الجامعية في البيت وانزل الى الأسواق لكتابة مواضيع عن الناس البسطاء وقضاياهم ومشاكلهم".
وفي هذا السياق جاء موضوع "صحن الفتوش الرمضاني" الذي يقول عرفان نظام الدين انه كتبه بعد ان ذهب الى السوق بطريقة ساخرة من باب الاستهزاء وعندما طلب "المعلم كامل مروة" الموضوع مضى يقرأ باهتمام ثم وضعه في "عمود على شمال صدر الصفحة الأولى" للجريدة الكبيرة وطلب من رسام الكاريكاتور ملحم عماد رسما عن صحن الفتوش وهو يكتب العنوان: إذا كان صحن الفتوش يكلف هذه المبالغ فكيف يعيش الفقراء؟!
وعن "هذا الموضوع الذي تحول إلى علامة البداية الناجحة في مسيرته الصحفية المديدة" يقول عرفان نظام الدين والذي تولى مناصب قيادية في الصحافة العربية كرئاسة تحرير جريدة الحياة وكذلك جريدة الشرق الأوسط التي تصدر بالعربية من لندن :"بعد أن رأيت ما فعله كامل مروة بخبر عادي حوله الى قضية أخذت درسا جديدا من الدروس التي تعلمتها وانه اذا كنا كصحفيين لا ننقل نبض الشارع ولانعايش هؤلاء الناس البسطاء فلا دور لنا".
وشهر رمضان الفضيل عرف في مصر وغيرها من أمصار العالم الاسلامي جرعات ثقافية حافلة بالتشويق على موائد الافطار التي تفنن في اعدادها لفيف من "الآباء الثقافيين" مثل العلامة المصري الراحل محمد محمود شاكر.
وكثير من كبار المثقفين المصريين والعرب أطلقوا على الافطار الرمضاني الذي كانوا يتناولونه في بيت العلامة محمد محمود شاكر اسما دالا وطريفا وهو "طعام أهل الجنة" لما كانت هذه المائدة تتضمنه من الوان الطعام الشهي.
ولعل هناك حاجة لمزيد من الكتابات الثقافية الممتعة عن الموائد الرمضانية في زمن العولمة وحقبة ما بعد الحداثة فيما تدور معركة ثقافية طريفة حول الافطار الشهى الذى تحاول ثقافات غذائية ان تدلى فيه بدلوها بقدر ماتعبر عن حقيقة العلاقة بين الثقافة والغذاء وبين الخصوصية الثقافية الغذائية والغذاء المعولم.
وفى كتابه "الجغرافيا الثقافية" أكد مايك كرانج الأستاذ فى جامعة دورهايم البريطانية على "المعنى الثقافى" للطعام . موضحا ان المأكولات علامات واضحة على الثقافات المختلفة حول الكرة الأرضية ويضيف انه كثيرا مايطلب من طلابه ان يتأملوا من اين جاءتهم اخر وجبة لأن اقتفاء اثر كل المواد المستعملة فى انتاج تلك الوجبة يكشف عن علاقة اعتماد على عالم بأسره من العلاقات وشروط الانتاج.
وتحفل الصحافة الثقافية الغربية بعروض لكتب جديدة تتناول بجدية وطرافة معا جوانب متعددة لثقافة الغذاء وهو شىء مختلف الى حد بعيد عن كتب المطبخ التى تصدر بالعربية وتحقق مبيعات عالية قد تثير لوعة كبار الكتاب أو الطرق المبتكرة والوصفات المتعددة للمأكولات التى قلما تخلو منها صحيفة او مجلة عامة او قناة تلفزيونية.
وتتفنن بعض الصحف ووسائل الاعلام العربية فى عرض الوصفات الرمضانية حتى إن بعضها ينشر طرقا مبتكرة لتقديم "شوربات رمضانية متنوعة" من المطابخ الأوروبية مع الشرح الكامل لسبل اعدادها.
فإذا كانت المائدة الرمضانية تحوى أنواعا تقليدية من الحساء مثل "شوربة الدجاج " و"شوربة الخضار" و"شوربة العدس"، فإن المطابخ الأوروبية لا تخلو من أنواع حساء ملائمة لشهر رمضان مثل "شوربة الكوسة" من المطبخ الفرنسي و"شوربة مينستروني" من المطبخ الإيطالي و"شوربة الملفوف" من المطبخ الروسي، فضلا عن "شوربة الجزر والكرفس" من المطبخ الأسباني.
وفيما يستعيد البعض في مصر والعالم العربي بالحنين "ذكريات مطبخ ابلة نظيرة" او نظيرة نيقولا صاحبة أول واشهر موسوعة عربية في المطبخ وفنون الطهي والتي تعد علامة مصرية في الثقافة الغذائية ابان القرن العشرين قد يحق التوقف عند مغزى كتاب صدر بالإنجليزية عنوانه "براعة فن الطبخ السوفييتي" والذي تتناول فيه المؤلفة انيا فون بريمزين افانين والوان المطبخ والمأكولات في عصر الاتحاد السوفييتي قبل ان يدخل في ذمة التاريخ وكجزء لاغنى عنه من التأريخ الثقافي الشامل لهذا العصر.
وفى ظل العولمة اضحت كل نكهات العالم فى شوارع المدن الكبرى وتنتشر المطاعم القادمة بمطابخ ماوراء البحار فيما يتأمل مايك كرانج مؤلف كتاب الجغرافيا الثقافية فيما يسميه "بتسويق تداعيات معانى المكان".
ويرى مايك كريج ان مطاعم مدينة مثل نيويورك تشكل مكانا للتدفقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية مضيفا :"المطعم كمكان تحدث فيه المنتجات الثقافية وتتكاثر وتتخطى الحدود القومية" فيما يتوقف مليا امام سلاسل مطاعم المأكولات السريعة التى تعبر عن الثقافة الأمريكية.
وإذا كان الصينيون لم يغفلوا حتى عن صناعة "فانوس رمضان" وتصديره فلن يكون من المثير للدهشة ان ثقافة الغذاء الصينى باتت طرفا فى الافطار الرمضانى حيث تتنافس المطاعم الصينية فى جذب الزبائن من الصائمين للافطار على موائدها فى كثير من المدن العربية.
وهكذا تدور معركة محتدمة وطريفة ودالة بين "المحاشى المصرية" و"الفتة الشامية" و"الكسكسى المغربى" و"المنسف الأردنى" و"المقلوب الفلسطينى" و"الجريش السعودى" و"الدولما العراقية" و"الحريرة التونسية" من جانب وبين المأكولات الصينية مثل "لفائف الديم سوم" او "الديم سوم سوشى" و"العجائن بالجمبرى".
وبالذكاء التجارى والتسويقى الصينى-لم تنس المطاعم الصينية المنتشرة فى العالم العربى التمور فى شهر الصيام جنبا الى جنب مع المقبلات المتعددة و"لفائف سبرينج رول" ناهيك عن الشاي الصيني بنكهات عديدة من الأعشاب والزهور البرية و"حلوى كانتون".
وفى المقابل فان بعض العقول التى تعمل فى ثقافة الغذاء بالمعنى الواسع فى مصر والعالم العربى عمدت للتركيز على الأكلات المصرية والشرقية فى مطاعم بدت وكأنها نوع من الاستجابة لتحدي انتشار ثقافة المأكولات السريعة مع الاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي.
وتنزع هذه المطاعم التى ترفع شعار الأصالة و"أكل زمان" لاختيار مسميات مصرية وشرقية خالصة بل ان بعضها يستعير أسماء أماكن وشخصيات وردت فى اعمال لكبار الكتاب المصريين والعرب وخاصة أديب نوبل نجيب محفوظ دون أن تتنازل عن الاستفادة بمنجزات الحداثة مثل التواصل الالكترونى عبر شبكة الانترنت مع الزبائن الذين تهفو بطونهم "لطاجن عكاوى او بطاطس باللحمة او بط محشو ناهيك عن الأرز المعمر".
إنها المائدة الرمضانية المصرية التي تجمع كل المصريين كأسرة واحدة بالخبز والملح والوفاء لمسقط الرأس والحب للوطن وتطلق رسائل النور واشارات الألفة والأنس.. هنا يكتب تاريخ ومن هنا تخرج أنهار المستقبل!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.