رحلات كبرى خاضها المستشرقون الغربيون إلى المملكة العربية السعودية من أجل متابعة موسم الحج وأداء المسلمين تلك الفريضة، وكتبوا فيها أبحاثا ودراسات عديدة بعد عودتهم لبلادهم، وكان أول من ادعى الوصول إلى مكةالمكرمة من المستشرقين، هو «جون كابوت» عام 1480م، أى قبل سقوط الأندلس ب«12» عاما ولكن للأسف لم يكن ضمن تراثه أى كتب أو أبحاث أو دراسات تتحدث عن الحج، بينما وصلت أول دراسة عن تلك الفريضة عام «1503» ميلادية للمستشرق الإيطالى «لودفيجودى فارتيما» الذى انتحل اسم يونس المصرى لدخول المملكة العربية السعودية دون ملاحقة من أحد. كان انتحال أسماء عربية مسلمة الوسيلة الأكثر شيوعًا لدى المستشرقين لدخول المملكة ومشاهدة موسم الحج، ففى هذه الفترة كانت فرنسا وإنجلترا ترسلان جواسيس لمراقبة الحجاج ومتابعتهم ومحاولة إفساد موسم الحج عليهم. المستشرق الثانى الذى دخل مكة باسم «يوسف» هو «جوزيف بتس» عام «1680» ميلادية، ثم تبعه الإسبانى «دومنيكو باديا ليبليج» عام 1807م باسم «على العباسي»، ومن بعده الرحالة السويسرى «جون لويس بوركهارت» باسم «إبراهيم» عام 1814م، ثم الرحالة البريطانى «ريتشارد بيرتون» باسم «عبدالله» عام 1853م، ثم الفرنسى «جيل جورفيه كورتلمون» باسم «عبدالله بن البشير» عام 1894، ونستعرض هنا بعد أقوال المستشرقين الغربيين فى فريضة الحج. ميردين لويس إيوان ميردين لويس، عميد المستشرقين البريطانيين فى الشأن الإفريقى، الذى قال إن الحج من أدوات الإسلام فى صناعة هوية مشتركة، مؤكدًا على أن الإسلام يوحد كل أبنائه مهما اختلفت أصولهم العرقية وانتماءاتهم السياسية تحت مسمى المسلمين الذين يتساوون جميعهم فى الواجبات والحقوق أمام الله، واعتبر المستشرق البريطانى شعيرة الحج إلى مكة لها أثر كبير جدًا فى انتقال اللغة العربية بأساليبها ومفرداتها وحروفها الهجائية من الجزيرة العربية إلى أقصى شعوب الشرق الإسلامية كالملايو وسومطرة، واصفًا إياها بأنها كشبكة من الاتصالات مع الخارج. رونالد بودلي قال الكولونيل البريطانى رونالد فيكتور بودلى فى أحد مقالاته: الحج أعظم شاهد على ديمقراطية الإسلام، فهناك يجتمع المسلمون الأوروبيون والآسيويون والإفريقيون، والصعاليك والأمراء، والتجار والمقاتلون فى نفس الإزار البسيط الذى كان محمد وأتباعه يرتدونه فى حجة الوداع، إنهم جميعا يتناولون نفس الطعام، ويتقاسمون نفس الخيام، دون أى تمييز، سواء أجاءوا من مرافئ سيراليون أم من قصر نظام حيدر أباد، إنهم جميعًا مسلمون. فيليب حتى تعتبر نظرة الكولونيل البريطانى عن الحج الإسلامى هى نفس نظرة معظم المستشرقين الذين تحدثوا عن تلك الظاهرة، حيث وافق معظمهم على مساواة هذه الفريضة بين البشر وبالتحديد المسلمون وإزالة جميع الفوارق بينهم، وهذا ما أكده «فيليب» حينما قال: الاجتماع فى موسم الحج له الفضل الأكبر فى القضاء على فوارق الجنس واللون والقومية لدى المسلمين، فقد جعلت هذه الفريضة الدين الإسلامى الدين الوحيد الذى يعبر عن المساواة الحقيقية بين جميع أبنائه. جوزيف بيتس لعل أبرز من كتب عن الحج فى مذكراته المستشرق «جوزيف بيتس» حين وصف صعود الحجاج إلى عرفات: كان مشهدًا عظيما أن ترى هذه الآلاف المؤلفة فى لباس التواضع والتجرد من ملذات الدنيا برؤوسهم العارية وقد بلّلت الدموع وَجَناتهم، وأن تسمع تضرعاتهم طالبين الغفران والصفح لبدء حياة جديدة. كان زيارة بيتس لمكة مختلفة تماما عن باقى المستشرقين حيث زارها مجبرًا بعد أن وقعت سفينته فى قبضة القراصنة الذين استولوا عليها وأسروا كل من فيها ثم باعوهم فى الجزائر كعبيد، ومن هنا تم بيعه إلى رجل جزائرى اصطحبه معه إلى موسم الحج ليشهد تفاصيل هذه الفريضة منذ غسل الكعبة بماء زمزم وحتى رحيل آخر حاج من السعودية. ريتشارد بيرتون جاءت زيارة ريتشارد بيرتون، المستشرق الإنجليزى بتكليف من الجمعية الجغرافية الملكية بلندن كى يستكشف وسط وشرق الجزيرة العربية، وقال فى تقريره جملة قوية جدًا عن الحج «لقد رأيت شعائر دينية فى بقاع كثيرة من الأرض، لكننى لم أر أبدًا ما هو أكثر وقارًا وتأثيرًا مما رأيته هنا». دومنيكو ليبليج دخلها المستشرق الإسبانى باسم «على بك العباسي» عام 1807، واتهم بعد ذلك بأنه كان عميلًا لعدد من الدول مثل فرنسا والبرتغال وإنجلترا. كتب هذا المستشرق عن الحج فى مذكراته: إنَّ الإنسان لا يستطيع أن يكوِّن فكرة عن ذلك المنظر المهيب الذى يبدو فى مناسك الحجِّ بصورة عامَّة إلا بعد الوقوف على جبل عرفات، فهناك حشد من الرجال الذين لا يُحصى لهم عدد، وهم من جميع الأمم، ومن جميع الألوان، وقد أتَوْا من أركان المعمورة على الرغْم من المخاطر والأهوال لعبادة الله، فالقفقاسى يمد يده للحبشى أو الإفريقى أو الهندى أو العجمي، ويشعر بشعور الأخوة مع الرجال من البرابرة من سواحل مراكش، وكلهم يعُدُّون أنفسهم إخوانًا أو أعضاء فى أسرة واحدة. غيل كورتلمون زارها أيضًا باسم عربى مستعار وهو «عبدالله بن البشير»، المصور الفرنسى الشهير غيل غرفيه كورتلمون عام 1894، وحضر فريضة الحج كاملة، وذكر مشاهداته كلها فى كتاب ألفه بعد عودته أطلق عليه اسم «رحلتى إلى مكة»، حيث قال: عشرون ألف مؤمن يتراصّون فى صفوف منتظمة، يقفون فى ثبات وسكون: «بسم الله...» فعمّ الحرم الشريف صمت مطبق، وامتلأت القلوب بالإيمان فى صمت، «الله أكبر...» فيرد الجميع بصوت واحد، وبصوت خافت: الله أكبر إلا أنّ عدد المصلين كبير جدًا، لدرجة أنّ ترديد الأصوات، وإنْ بصوت خافت، يجعلها تتجمع فى صوت هائل مفعم بالإيمان، مُحدِثًا جلجلة تستمر مدة طويلة مع انحناء المصلين للركوع، تستمر الصلاة، ومعها تستمر جباه المصلين فى ملامسة الأرض مرتين، عبادةً لله تعالى وخضوعًا له، ثم تتوالى الركعات فى حركات هادئة مملوءة بالإجلال، فتزيدهم وقارًا، وهكذا إلى أن تنتهى الفريضة بالسلام. توم رادل الكتاب الثانى بعد كتاب «كورتلمون» هو كتاب «مكة كونها مؤثِّرًا».. خمسة متطلبات للنجاح العملى والشخصي، للكاتب الأمريكى توم رادل عام 1997، وقام من خلاله باختراع العديد من المصطلحات الإدارية المرتبطة جميعا باسم مكة مثل «الشخصيات المكية» و«فريق التمكين المكي» وغيرها والتى تكلم عنها فى كتابه: وهذا الاستنباط يعنى أنه يمكن استلهام تعاليم ومعانى هذه الرسالة السماوية لانتشال الناس من كل العقائد والأجناس من غفلتهم، لاسيما أولئك الذين يجاهدون فى سبيل البحث عن بُعد روحى يرتكزون إليه فتطمئن قلوبهم عبر رحلتهم فى هذا العالم. فنسنك درس المستشرق الهولندى الحج وكتب فيه العديد من الدراسات، وتحديدًا عن وقفة عرفات فقال: إن الوقوف فى سهل عرفات من أهم مناسك الحج، فالحج بدون الوقوف باطل فى الإسلام، ووصف فى بحثه أيضًا ملابس الإحرام ولونها الأبيض، وشكل الحاج فى الإسلام وحلقه لرأسه وعدم لبسه لأى حذاء. ومن الكتب الغربية أيضًا التى أصدرها مستشرقون أوروبيون عن الحج كتاب «الإسلام عن الحج» للمستشرق الفرنسى «هنرى ماسيه» والذى قال فيه: يحتفظ الحج بأهمية رئيسية سواء كان بسبب نتائجه السياسية والاقتصادية أو بسبب قدمه، وبالفعل فهو يبدو مزيجًا من البقايا الوثنية والطقوس الجديدة والمزارات التى يزورها الحاج فى مكة هى أماكن عبادة قبل الإسلام. حديث المستشرقين عن الحج لم يكن عبارة عن مجرد زيارات ورحلات ومغامرات لهم فحسب بل هناك بعض المستشرقين تخصصوا فى دراسة الحج وحصلوا على شهادة الدكتوراه فيها، ولعل أبرزهم المستشرق الهولندى سنوك، الذى سافر إلى مكة وحصل على درجة الدكتوراه بعد أن تناولت دراسته السياسات التى مارسها المستعمرون وقتها لمنع شريعة الحج منها تخويف الناس من انتشار الأمراض، والعمل على قطع طريق وصول الحجاج إلى مكة وغيرها من المعوقات الأخرى الكثيرة. انتقادات المستشرقين للحج الإسلامي على الرغم من وجود شبه إجماع من المستشرقين الغرب على روعة الحج الإسلامى وما فيه من تآلف ومساواة وتآخ بين المسلمين جميعا دون تفرقة بين أحد من خلال لون أو جنس أو قومية إلا أن هناك عددا من المستشرقين الغربيين كان لهم رأى مختلف وناقد لها.. دينيس سورا وصف ما يحدث بالوثنية حيث رأى المسلمين جميعهم يلتفون حول بيت كبير وهو الكعبة، ثم يقبلون حجرا أسود ثم يقذفون تجسيدا للشيطان بالحجارة، الأمر الذى جعله يصف شعيرة الحج بالشعيرة الوثنية فى الإسلام، وعلى الجانب الآخر وصف النبى محمد فى كتاب له عن الإسلام فى فصل الحج: إن محمدا يكاد يكون هو الوحيد الذى نعرفه عن طريق التاريخ من بين عظماء مؤسسى الأديان، إذ إن الخرافات لم تستطع أن تخيفه... فقد كان العرب يعبدون الجن والأرواح التى تقطن الأحجار، إلى جانب عدد من آلهة القبائل المختلفة، ولقد محا الإسلام هذا كله، ولم يبق منه سوى الحجر الأسود. فقد ظل موطن القداسة الجوهرية، إذ وضعه محمد تحت حماية الخليل إبراهيم. جولد زيهر شكك المستشرق اليهودى جولدزيهر، فى الحج بحجة أن المسلمين فى عهد عبدالملك بن مروان حجوا فى المسجد الأقصى وبالتحديد عند قبة الصخر أثناء أيام محنة عبدالله بن الزبير رضى الله عنه، وقال إن هناك مزورى أحاديث ظهروا فى تلك الفترة لتنفيذ أوامر بن مروان من خلال كتابة أحاديث تتفق مع أهوائه وقراراته ومنها الحديث الشهير الخاص بالحج الذى شكك فيه المستشرق اليهودى والذى يقول فيه النبي: لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: مسجدى هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والعديد من الأحاديث الأخرى الكثيرة التى تتحدث عن الحج وتصف للمسلمين طقوسه المختلفة التى لم تذكر كلها فى القرآن الكريم. فير واير قال المستشرق فير واير الذى وصف فى أبحاثه تلك الشعيرة الإسلامية بجزء من الموروثات الجاهلية تارة، وتارة أخرى حاول أن يجعلها مجرد تشبه من المسلمين بالمسيحيين واليهود الذين لديهم حج فى شريعتهم أيضا وقال فى أحد أبحاثه المعروفة باسم دائرة المعارف الإسلامية: ولكن محمدًا وجد الحج إلى الأماكن المقدسة متأصّلًا فى نفوس العرب لا يستطيع له دفعًا، وكان قصاراه أًلاّ يُبقى من بيوت العبادة إلاّ على بيت واحد، جعله بيت الله الواحد. بوهل ومن المستشرقين المنتقدين أيضًا لفريضة الحج المستشرق بوهل الذى هاجم وبشدة فكرة رمى الجمرات والتى هى أحد أهم أركان الحج، حيث قال عنها فى بحث شهير له عن الحج: ورمى الجمرات شعيرة أخذها الإسلام عن الوثنية فلم ينصّ صراحة عليها فى القرآن، ولكنها ذكرت فى سير النبى وفى الحديث.