يعد كتاب "الجيش في مصر القديمة.. الخصائص والشئون العسكرية" للدكتور محمد رأفت عباس، والصادر مؤخرًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بمثابة رصد لما حققته الحضارة المصرية على مر التاريخ، والذي استطاعت من خلاله أن تذهل العالم منذ قدم التاريخ إلى يومنا هذا في مختلف المجالات وعلى رأسها المجال الحربي والعسكري، فقد كان الجيش المصري القديم أقدم وأعرق مؤسسة عسكرية في التاريخ الإنساني، فهو الذي عمل على حماية مصر القديمة ومنجزاتها الحضارية العظيمة من قوى العدوان والتخريب والهجمات البربرية، بل كان هذا الجيش في الكثير من الأحيان الدرع الحصين لحضارة الشرق الأدنى القديم بأكمله من الغزوات البربرية الهمجية المدمرة التي كانت تهدد حضارات تلك المنطقة. ويشير الكتاب إلى أن مصر لم يكن لها جيش ثابت منظم حتى نهاية عصر الدولة القديمة، فلقد كان لكل مقاطعة أو إقليم قواته الخاصة به، كما كان لكل معبد من المعابد الكبيرة قواته الخاصة، ولم تكن هناك وحدة بين هذه القوات إلا في حالة الضرورة الملحة، بينما أختلف شكل الجيش في عصر الدولة الوسطى حيث كان هناك شبه استقلال لحُكام الأقاليم ومن ثم فقد كانوا يحتفظون لأنفسهم بقوات مشكلة على غرار جيش الدولة، وإن كان أصغر منها حجمًا، تميزت القوات العسكرية المصرية في عصر الدولة الوسطى بأنها أكثر تنظيمًا، حيث أصبح بالجيش المصري وحدات خاصة بالهجوم الصاعق، وكانت مسلحة بالخناجر والرماح والدروع، وتتكون هذه القوات من الجنود المحترفين المتواجدين على رأس القوات أثناء القتال. ويرصد الكتاب أهم الحملات العسكرية التي قام بها الجيش المصري في عصر الدولة الوسطى في عهد الملك المحارب "سنوسرت الثالث"، الذي يعد أحد أشهر القادة العسكريين في مصر القديمة – على بلاد النوبة، وهي الحملات التي خُلدت ذكراها من من خلال لوحة عند حصن سمنة الواقعة جنوب الجندل الثاني، وقد توجه الملك "سنوسرت الثالث"، بنفسه على رأس جيشه أكثر من مرة خلال الحملات الحربية المصرية في بلاد النوبة، وذكر في لوحة سمنة وغيرها من النصوص التي تركها في بلاد النوبة، أنه بريء من أي ابن يأتي من بعده ولا يحافظ على حدود مصر عند الجندل الثاني، وتقديرًا لهذا الإنجاز العسكري للملك "سنوسرت الثالث"، قام الملك "تحوتمس الثالث"، وهو من أعظم الفراعنة المحاربين في تاريخ مصر القديمة، بتمجيده بعد وفاته بنحو خمسمائة عام، ويرفعه إلى مصاف الآلهة، ويقدم له القرابين تقديرًا واحترامًا وتقديسًا، وذلك يتجلى على جدران معبد "عمدا" في بلاد النوبة. على أرض مصر ظهرت ولأول مرة في تاريخ العالم القديم بأسره، فكرة الاستخدام الإستراتيجي للقوات المسلحة، على أساس تقسيم الجيوش المحاربة إلى ألوية وأجنحة مستقلة في حد ذاتها، ولكنها في النهاية تعمل تحت قيادة مركزية موحدة، وقد تم هذا التطور الحربي الهائل على أيدي الفراعنة الأوائل ملوك الأسرة الثامنة عشرة وخلال الدولة الحديثة بدأ المصريون في تطبيق الأفكار الحربية والإستراتيجية، وقد لعبت المناورات الاستراتيجية التي كانت تجريها الفرق والجيوش المصرية دورًا حاسمًا في كسب المعارك في ميادين الحرب والقتال. كان الفرعون هو القائد الأعلى للجيش المصري خلال عصر الدولة الحديثة، وكان يقود بنفسه الحملات والمعارك الحربية الكبرى والمهمة، بينما كانت الحملات الحربية الصغرى أو الأقل أهمية من الممكن أن تسند قيادتها إلى أحد كبار القادة العسكريين. وكان الوزير يشغل منصب وزير الحرب ويحمل لقب "مساعد الحاكم"، وفي ميادين القتال كان فراعنة مصر المحاربين يستعينون بمجلس الحرب الذي يتكون من كبار القادة العسكريين بالجيش المصري. تشكلت الوحدة الرئيسية في الجيش المصري خلال عصر الدولة الحديثة من السرية، والتي كانت تنقسم إلى فصائل، ثم إلى جماعات، وتتكون الجماعة من عشرة أفراد، وكان قائدها يتلقى أوامره من قائد الفصيلة الذي يُعرف بقائد الخمسين، وكان الجيش خلال المعركة أو خلال الحملات الحربية الكبرى إلى عدد من الفرق أو الفيالق، حيث كان كل فيلق بمثابة قوة عسكرية كاملة تتكون من قوات المركبات "العربات الحربية"، وقوات المشاة، ويبلغ قوام الفيلق نحو خمسة آلاف مقاتل، وفي معركة قادش الشهيرة "1274 ق.م" في العام الخامس من حُكم الفرعون "رمسيس الثاني"، كان قادة هذه الفرق أو الفيالق على الأغلب من الأمراء الملكيين أو كبار الفرق أو الفيالق تحمل أسماء المعبودات المصرية الكبرى. كان الجيش المصري في عصر الدولة الحديثة يتكون من قسمين رئيسيين، هما المشاة والمركبات الحربية، وكان سلاح المشاة دعامة الجيش لأن جنوده هم الذين يحتلون الأراضي المفتوحة، ويقيمون في الحصون لحراسة الطرق المؤدية إلى الوطن، والتي تؤدي إلى مواقع القوات.. ثانيًا سلاح المركبات، فكما استخدمت مصر الخيول أداة من أدوات الحرب، استخدمت المركبات الحربية التي تجرها الخيول وذلك منذ عهد الملك "كامس"، وعهد الملك "أحمس الأول" محرر مصر من الهكسوس، وتعود بداية استخدام هاتين الوسيلتين في الحرب إلى فترة احتلال الهكسوس لمصر.