أعمل مع الشباب لأسباب أنانية ولست مدينا لهم ولا أؤدى دورا تجاههم.. الفيلم الجيد لا يقاس بالجوائز التى يحصل عليها بل بالتأثير فى الجمهور.. توقفت عن المشاركة فى لجان التحكيم لأننى لست بناء بشكل كافٍ منذ عدة أيام، فى الرابع من يوليو، رحل عن عالمنا واحد من أكبر الفنانين العالميين، وهو المخرج والمؤلف السينمائى الإيرانى عباس كياروستامى، عن عمر يناهز السادسة والسبعين، تاركًا ميراثًا غنيًا يقترب من أربعين فيلمًا، بجانب عشرات السيناريوهات، والصور الفوتوغرافية، والقصائد، بالإضافة إلى عشرات السينمائيين الشباب الذين تتلمذوا على يديه. كياروستامى، مثل معظم الفنانين الكبار، غير معروف بشكل كافٍ فى مصر، على الأقل كما هو معروف فى أوروبا وأمريكا وبقية بلاد الله، والأسوأ من ذلك أنه غير مفهوم لمعظم من يعرفون اسمه، فهو بالنسبة لهم مخرج عادى، يصنع أفلامًا مملة، تنجح فى الغرب فقط لمجرد أنه قادم من إيران! منتهى الجهل، ف«كياروستامى» مبدع كبير ليس فقط من وجهة نظر المهرجانات العالمية، ولكن حسب آراء كبار النقاد والمنظرين السينمائيين فى الغرب والشرق، وحسب عدد من كبار صُناع السينما فى العالم، مثل الأمريكيين مارتن سكورسيزى وودى آلان وكوينتين تارانتينو، واليابانى الراحل أكيرا كوروساوا، والفرنسى الأسطورة جان لوك جودار، الذى قال ذات مرة إن «السينما بدأت مع المخرج الأمريكى جريفيث ووصلت إلى منتهاها مع كياروستامى». أهم ما يميز تجربة كياروستامي، وزملائه من صناع السينما الإيرانية الكبار الذين بدأوا عملهم بعد الثورة الإيرانية، أنهم أعادوا تعريف معنى السينما، بعيدا عما وصلت إليه فى هوليوود، أو بوليوود، أو مصر، أو إيران قبل الثورة، حيث تحولت إلى صناعة وسوق تعتمد على القصص الترفيهية المستهلكة والتوابل التجارية وأسماء النجوم. بسبب القيود التى فرضت على السينما فى إيران من ناحية، وبسبب مواهب جيل جديد من السينمائيين الشباب، ورغبتهم فى استبدال السينما القديمة بسينما جديدة نابعة من ظروفهم ولا تشبه أى سينما أخرى.. من هذا الوضع الفريد ولدت أفلام عباس كياروستامى ورفاقه واستطاعت أن تهز أركان المهرجانات السينمائية العالمية، وأن تلفت انتباه وتحظى بإعجاب المتخصصين والدارسين والمتذوقين لفن السينما. فيما يلى تعريف سريع ب«كياروستامى» وسينماه، وحوار معه أجريته خلال لقائى به فى مهرجان مراكش الأخير ينشر لأول مرة. من هو كياروستامي؟ ولد عباس كياروستامى فى طهران عام 1940، وبدأ نشاطه فى صناعة الأفلام عام 1970، منضما إلى حركة موجة السينما الجديدة التى ظهرت فى نهاية الستينيات فى مواجهة السينما التجارية السائدة، لكن تحوله إلى مخرج صاحب أسلوب ومفهوم خاص عن السينما لم يتحقق إلا بعد سنوات طويلة، عقب قيام الخمينى وأتباعه بركوب الثورة الإيرانية عام 1979، وتحويل إيران إلى جمهورية إسلامية، وهو ما ترتب عليه إغلاق المجتمع وإلغاء كثير من النشاطات الإنسانية والفنية ومنها السينما، التى تمت محاربتها واتهامها بالكفر.. وتقريبا لم يعد متاحًا سوى صنع أفلام تعليمية وثائقية أو قصيرة. فى بداية الثمانينيات قام كياروستامى بصنع عدد من الأفلام القصيرة والوثائقية طور خلالها أسلوبه الذى سيشتهر عنه فيما بعد، والذى يعتمد على المزج بين الروائى والوثائقى والاعتماد على ممثلين هواة غالبا ما يؤدون أدوارهم الحقيقية فى الحياة، وعلى الحوار المكتوب بلغة أدبية، وبشكل عام على الاقتصاد والإيحاء فى التعبير البصرى بأسلوب أقرب إلى الشعر..بالإضافة إلى استلهام التراث الفنى الفارسى فى الرسم والشعر، من خلال فن السينما الذى يجمع بين التصوير والحوار. كانت انطلاقة كياروستامي، والسينما الإيرانية الجديدة عام 1987، مع فيلم «أين منزل صديقي؟» الذى يدور حول طفل يبحث عن منزل زميله فى المدرسة ليعيد له كراسة الواجب المنزلى التى كان قد استعارها منه ونسى أن يعيدها له. يعتمد الفيلم على ممثلين غير محترفين، وقد جرى تصويره فى المواقع الأصلية، فى بلدة «كوكر» الفقيرة شمال إيران. حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا محليًا وعالميًا، وحصل على جائزة الأسد البرونزى من مهرجان فينيسيا، وقد أعقبه كياروستامى بفيلمين آخرين حول نفس القرية، أطلق عليها فيما بعد «ثلاثية كوكر»، وركز الجزءان التاليان «وتستمر الحياة» و«تحت شجر الزيتون» على آثار الزلزال المدوى الذى ضرب إيران عام 1990. من أهم أعمال كياروستامى فى تلك الفترة فيلم «كلوز أب»، أو «لقطة مقربة»، الذى يصور واقعة تناولتها الصحف حول قيام شاب محتال بإقناع أسرة صغيرة بأنه المخرج المعروف محسن مخملباف، وهو أشهر اسم أنجبته السينما الإيرانية بعد اسم كياروستامي. من المدهش فى هذا الفيلم أن كياروستامى اعتمد على الأبطال الحقيقيين، أفراد الأسرة نفسها، والشاب المحتال، الذى يتبين أنه فعل ذلك من شدة عشقه للسينما ولمخملباف، ليعيدوا تمثيل ما حدث، وينتهى الفيلم بمشهد طويل يجمع بين الشاب ومحسن مخملباف الذى يذهب لاستقباله فور خروجه من السجن. فى عام 1997 حصل كياروستامى على أكبر جائزة يحصل عليها فيلم إيرانى حتى الآن، وهى السعفة الذهبية من مهرجان «كان»، عن فيلم «طعم الكرز» المبنى بأسلوب «أفلام الطريق» ويصور رحلة رجل فى الطبيعة يتبين أنه ينوى الانتحار. تعرض الفيلم لمتاعب فى إيران بسبب موضوعه، فالانتحار «حرام»، كما أن الانتحار فى بلد «إسلامي» قد يبدو فعلًا سياسيًا احتجاجيًا.. هذا النوع من الصدام بين الرقابة وصناع السينما فى إيران ليس استثنائيا، وبالرغم من اشتهار هذه السينما ب«عفتها» و«نظافتها»، إلا أنها واجهت، ولم تزل تواجه يوميا، شتى أنواع الرقابة والاضطهاد. لذلك ليس غريبا أن يعيش كياروستامى معظم سنوات العقدين الأخيرين من حياته خارج إيران، وأن يموت فى فرنسا، وليس غريبًا أن يهاجر محسن مخملباف وأسرته، مع سينمائيين كثيرين، وأن يسجن جعفر باناهى فى منزله ويمنع من صنع الأفلام...ومع ذلك ينجح فى صنع فيلمين حصل أحدهما على جائزة الدب الذهبى من مهرجان برلين 2015. بعد «طعم الكرز» ثبت كياروستامى مكانته فى السينما العالمية من جديد بحصوله على جائزة الأسد الفضى من مهرجان فينيسيا عن فيلمه التالى «الريح ستحملنا»، وهو فيلم «طريق» آخر كعادة كياروستامي، لكنه يحمل تجريبًا من نوع آخر، حيث يلتقى البطل المسافر طوال الوقت بأشخاص يتحدثون إليه، ولكننا لا نرى أيًا منهم، بل نسمع أصواتهم فقط! فى فيلمه التالى «عشرة»، 2002، تجربة سينمائية جديدة، حيث يتم تصوير الفيلم بالكامل داخل سيارة تقودها امرأة، تقل طفلها، ثم عددًا من الشخصيات الأخرى، والكاميرا ثابتة فى المكان نفسه فى سقف السيارة، والفيلم يتكون من عشرة مشاهد فقط، كل مشهد يسجل حوارا بين السيدة وشخصية أخرى. فى السنوات الأخيرة من عمره انتقل كياروستامى للعيش والعمل خارج إيران. فى عام 2008 قدم تجربة سينمائية عجيبة أخرى من خلال فيلمه «شيرين». الفيلم بالكامل عبارة عن لقطات لوجوه عدد من النساء، كلهن ممثلات إيرانيات معروفات من أعمار مختلفة، بالإضافة إلى الممثلة الفرنسية الشهيرة جولييت بينوش، يتفرجن على أحد الأفلام، وهو فيلم إيرانى قديم من زمن الإمبراطورية، يروى قصة «شيرين وخسرو» الملحمية الشعبية. ويسجل الفيلم ملامح النساء المتفرجات والمشاعر التى ترتسم على وجوههن أثناء المشاهدة، فى الوقت الذى لا نرى فيه لقطة واحدة من الفيلم المعروض! كان «شيرين» بداية تعرف كياروستامى على الممثلة جولييت بينوش، التى ارتبط بها لفترة، حيث شاركت فى بطولة فيلمه التالى «نسخة طبق الأصل» الذى شارك فى مهرجان «كان» 2010 وحصلت عنه بينوش على جائزة أفضل ممثلة. فى السنوات الأخيرة من حياته اتجه كياروستامى أيضا إلى صنع أفلام مشتركة الإنتاج عالمية الموضوع ومتعددة الممثلين واللغات، مثل فيلم «تذاكر» الذى يتكون من ثلاثة أجزاء قام كياروستامى بصنع أحدها، بينما قام المخرج الإنجليزى الكبير كين لوتش والمخرج الإيطالى أرمانو أولمى بصنع الجزءين التاليين، كذلك فيلمه الأخير مثل «شخص واقع فى الحب»، 2014، الذى قام بصنعه فى اليابان. بجانب إخراج الأفلام كتب كياروستامى العديد من سيناريوهات الأفلام الشهيرة التى أخرجها سينمائيون إيرانيون كبار مثل محسن مخملباف وجعفر باناهي، كما عمل كمونتير ومصور سينمائي، وبالأخص كمصور فوتوغرافى محترف، وكشاعر، ورسام، كما شارك فى إدارة العديد من الورش التدريبية والمحاضرات لعشرات وعشرات من الشباب فى البلاد العربية والأجنبية. التقيت عباس كياروستامى عدة مرات فى مهرجانات السينما فى الخليج ومصر، وكان آخر لقاء خلال مهرجان مراكش منذ عدة أشهر، حيث ألقى كياروستامى درس «ماستر كلاس» فى السينما لمئات من الشباب والطلبة، ثم التقينا لإجراء حوار صحفى فى اليوم التالي، قمت بتسجيله وترجمته، ثم أجلت نشره حتى أضمنه فى مقال أكبر عن سينما كياروستامي، خاصة عندما علمت أنه مريض جدا، ولكن الأيام جرت سريعا، ومات كياروستامى قبل أن أنشر الحوار. على أية حال هذه أجزاء منه. ■ فى الآونة الأخيرة تقضى معظم وقتك مع طلبة السينما، فى معاهد ومدارس تعليم صناعة الأفلام والورش التعليمية والمحاضرات التى تقام على هامش المهرجانات الكبرى فى الغرب والعالم العربي، أو كعضو لجان تحكيم فى المهرجانات ومسابقات الأفلام، خاصة مسابقات الطلبة. هل تفعل ذلك لأنك تشعر بأنك مدين لهؤلاء الشباب، أو أن واجبك يحتم عليك أن تنقل إليهم خبراتك ومهاراتك؟ - لست أشعر على الإطلاق أننى مدين أو أؤدى واجبًا تجاه الشباب. على العكس أنا أفعل ذلك لأسباب أنانية تماما، فأنا الذى أستفيد من الوقت الذى أقضيه معهم. عندما أشارك فى ورشة عمل أو فرص مماثلة للمشاركة مع الأجيال الصغيرة، فهى بالنسبة لى فرصة نادرة لتجديد وتنشيط علاقتى وتجربتى السينمائية، لأن حماسهم وشغفهم بالسينما يقرب المسافة التى تبعدنى عنها بحكم السن والصحة. بالنسبة للجان التحكيم فقد توقفت عن المشاركة فيها منذ سنوات، لأننى وجدت أننى لست بنّاءً بشكل كاف كعضو لجنة تحكيم. ■ فى أفلامك الأخيرة أشعر أنك تزداد ابتعادا عن الواقع، وعن مناقشة القضايا السياسية والاجتماعية، وأنك تنشغل أكثر فأكثر بقضايا تجريدية مثل معنى الفن، ومعنى الحياة، والفرق بين الفن والحياة..الحياة فى أفلام مثل «نسخة طبق الأصل» أو «شيرين» هى مجرد صورة، سراب، نسخة غير أصلية من نموذج غير موجود. - أولًا ينبغى أن نحدد ما هو الواقع، حتى نعرف هل أنا أبتعد أو على العكس أقترب منه أكثر. مبدئيا ليس لدىّ حتى الآن تعريف محدد عن الواقع. ولكن فى حدود ما أفهمه، أو فى حدود الأجزاء المتناثرة التى أفهمها عن الواقع، فى حدود تجربتى ورؤيتي، فإن أفلامى الأخيرة مثلها مثل أفلامى الأولى، تسعى للتعبير عن فهمى هذا للواقع. ■ شاهدت فيلم «شيرين» مؤخرا وقرأت بعض ما كتب عنه، من أنه تعبير عن التجربة الأنثوية فى مشاهدة وتلقى الأفلام، خاصة العاطفية.. إلخ، ولكننى قرأت هذا العمل كمحاكاة ساخرة، كنكتة حول معنى السينما. - هناك عبارة تنسب لجون فورد (المخرج الأمريكى الذى اشتهر بصنع أفلام الويسترن، أو رعاة البقر)، شككت فى صحة نسبتها له، لأنها مختلفة كثيرا عن السينما التى يصنعها، وبحثت عن مصدرها فوجدت أنها لجون فورد فعلًا. هذه العبارة تقول: «انس القصة وركز فقط على الوجوه، وحاول أن تستشف الحقيقة من تعبيرات هذه الوجوه والشخصيات». وفقا لهذا المفهوم أعتقد أن «شيرين» فيلم استثنائي. لست أعنى أننى صنعت عملًا استثنائيًا، أو أن عملى فيه مميز بشكل استثنائي. ولكن أعنى أننى كنت مجرد شاهد على تجربة استثنائية، كما لو أننى عرفت شيئا ما، أو أدركت حقيقة ما، من خلال النظر إلى وجوه بعض الناس. من خلال التطلع طويلا فى وجوه هؤلاء النساء ومحاولة الدخول إلى بواطنهن عبر ما يعتمل من تعبيرات على وجوههن. وفى الوقت نفسه هناك أيضا بُعد موضوعى فى الأمر، وهو علاقة هؤلاء النساء بالحب والعاطفة. ومرة ثانية أعود إلى حديثك عن بعدى عن الواقع. إن وجودى كشاهد على هذه الحقيقة أعتبره مزيدًا من الاقتراب وليس البعد عن الواقع. ■ قلت ذات مرة إن الفيلم الجيد لا يقاس بالجوائز التى يحصل عليها، ولا الإيرادات التى يجنيها. كيف نقيس إذن مدى نجاح فيلم ما؟ - أعتقد أن الحكم الوحيد هو الزمن. عندما تشاهد فيلما بعد إنتاجه بعشرين أو ثلاثين عاما، بعيدا عن السياق الذى ظهر فيه، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وتجد أنه لا يزال يؤثر فيك وأنه جيد فنيا، عندئذ يمكن أن تقول إن لهذا الفيلم قيمة فنية داخلية، وأن نجاحه النقدى أو الجماهيرى لم يكن مرتبطا بالسياق التاريخى الذى ظهر فيه. الزمن هو الوحيد الذى يمكن أن يخبرنا بذلك. ■ ولكن فى زمن الثورة الرقمية التى سهلت عملية صنع الأفلام والعدد الهائل من الأفلام التى تنتج يوميا، زمن السلع الرخيصة، قصيرة العمر، هل تعتقد أنه لا يزال من الممكن صنع أعمال «كلاسيكية» تعيش لثلاثين أو أربعين عاما قادمة؟ - ليس لدىّ شك فى هذا. النتيجة الوحيدة للثورة الرقمية هى إنتاج المزيد من الكلاسيكيات والأفلام الجيدة وليس العكس. ولكن حتى نكتشفها يجب إخضاعها لاختبار الزمن، وأن ننتظر لثلاثين عامًا أخرى.