لا تملك الدولة المصرية تجاهل التجارب الناجحة التى أكدت على وجود أدوات بعينها لا يمكن فى غيابها إجراء عملية تحول ديمقراطى حقيقى، تلبى التطلعات الشعبية الثورية المتنامية، والتى على أساسها يمكن أن ترسخ قيم الثورة، وتتجسد مبادئها، وتتحقق أهدافها. فى هذا الإطار تأتى الأحزاب لتعبر عن المسار الحقيقى والشرعى لكافة تيارات الرأى العام، وما يجول فى طياته من رؤى واتجاهات متباينة، من خلالها يمكن أن تتشكل مشاركة شعبية حاكمة فى صناعة القرار السياسي، إذ من خلال الأحزاب تنهض القوى المدنية بطرح ما لديها من قناعات، وإبداء رؤاها، وما تطلبه من سياسات فى شتى نواحى الحياة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولا يتوقف الأمر عند حد المنافسة الحزبية على مقاعد البرلمان، وهو الوجه الأكثر سخونة للمنافسة الحزبية «لاحظ ما يدره من فرص متوالية للمصالح»، بل يمتد الدور الحزبى إلى نشر التنشئة السياسية بين كافة طبقات الشعب، ليستجمع من خلالها أبناء جدد يتوارثون فكره ويعتنقون مبادئه، ويروجون لأفكاره، ويؤيدون سياساته متى تمكن من الحصول على فرصة تشكيل حكومة تقود عملية إدارة شئون الدولة. وهو أمر شديد الخطورة، إذ يهيئ للمجتمع سُبلًا شتى لصياغة استراتيجية وطنية حاكمة تعتمد على اتجاهات الرأى العام، وتبنى جبهة داخلية متماسكة على أساس من الإلمام بحقائق وأفكار الحزب الحاكم، حين يصعد إلى قمة السلطة بموجب ما له من شعبية توفر قاعدة جماهيرية تضمن له المساندة من جهة، ومن جهة أخرى توفر للحزب تجديدًا مستمرًا متى حرص على الوفاء بمستجدات الفكر السياسى، فيما يعبر عن قدرة الحزب على النمو والتطور وفق ما تمليه حقائق العصر. من هنا، فإن للأحزاب من الأدوار ما يمكن أن ينهض بها فيشكل نموذجًا للمسئولية الوطنية، حتى وهو خارج زمام السلطة، إذا ما أراد أن يؤسس لقيمه وأفكاره طرقًا آمنة تصل بينه وبين الملايين، وتمتد به إلى آفاق بعيدة فى مستقبل التجربة الوطنية. غير أن للدولة دورها المهم الذى لا ينبغى لها أن تتراجع عنه فيما ذكرت من مسئوليات وطنية ينهض بها العمل الحزبي، ذلك أن مناخًا ملائمًا توفره الدولة، دونه لا يمكن أن نتوقع خيرًا من الأحزاب، ولا أن ننتظر منها مشاركة حقيقية فى عملية التنمية السياسية وثيقة الصلة بجميع أوجه التنمية، الاقتصادية والاجتماعية. ولعل الأمر على هذا النحو يشير إلى ضرورة وجود إرادة سياسية واعية بدور الأحزاب، وحقها فى المشاركة فى الحكم، تأكيدًا لحق المجتمع فى حياة سياسية صحية، تعتمد على كافة مبادئ الحكم الرشيد، اعتمادًا على الرغبة فى إعمال مبادئ وأفكار الثورة المصرية. فليس فى غياب منظومة تشريعية، تستند إلى قاعدة دستورية واضحة وقوية فى تأييدها للتعددية السياسية والحزبية، يمكن أن تؤدى الدولة دورها فى دعم الأحزاب، ودفعها نحو أدوارها الوطنية شديدة الأهمية. والواقع أن الدولة المصرية بالفعل وفرت ذلك فى دستور 2014 الذى حمل الكثير من الآمال نحو بناء دولة ديمقراطية حديثة، تتبنى كافة القيم الراقية الدافعة إلى حركة المجتمع باتجاه التنمية الشاملة، وصولًا إلى تحقيق موقع أفضل يتناسب وموقعنا الفريد فى المسيرة الإنسانية منذ آلاف السنين كأول دولة فى التاريخ، ومصدر الإلهام الأول للحضارات المتعاقبة. غير أن منظومة القوانين المستندة إلى قيم ومبادئ دستور 2014 ما زالت تنتظر جهدًا أكبر فى المرحلة الراهنة، إذ لا يجب أن نعتبر أن سباقًا برلمانيًا أنجزناه على أفضل وجه، فليس من شك أن ميراثنا فى هذا الشأن ثقيل ومرير، ويحمل علينا الكثير من المهام الجسيمة، دونها لا يمكن أن تتجسد مواد الدستور، ولا روحه الديمقراطية. ومن ثم عسانا نتفق على حتمية تنقية حياتنا الحزبية من كثير من الشوائب التى عانى منها المجتمع إبان الانتخابات البرلمانية، تحقيقًا لمستوى أفضل، يهيئ لنا فرصًا حقيقية للحاق بطموحات الشعب فى حياة كريمة حرة، تندمج بها الدولة المصرية فى المجتمع الدولى على أسس حقيقية من قيم ومبادئ إنسانية مشتركة. لذلك يبقى على الدولة أن تدفع بالتجربة المصرية، وهى تسعى على طريق التحول الديمقراطى، إلى ترقية القوانين المنظمة للحياة السياسية برمتها، والمنوط بها تنظيم العمل الحزبى، لتتفق وما هو معمول به فى المجتمعات التى سبقتنا إلى العمل بالديمقراطية سبيلًا إلى نهضة مجتمعية حقيقية. لا أشير بذلك إلى تدخل الدولة فى العمل الحزبى، فذلك يفرغ العملية الديمقراطية من مضمونها، ويحط من شأنها فى المجتمع الدولى، مثلما يهبط بها فى قناعات الرأى العام فنجده عازفًا كما عودنا عن المشاركة السياسية بجميع أشكالها، بسبب افتقاده المصداقية فى القائمين على العملية الحزبية على وجه الخصوص. بل إننى أدعو إلى أن تقوم الدولة بدورها فى تنظيم وضبط العملية الحزبية، من خلال توفير آلية واضحة وحاكمة بغرض الرقابة على أعمال الأحزاب، إذ ليس الشأن المالى هو الأهم، فنرى الجهاز المركزى للمحاسبات يراقب الشئون المالية للأحزاب، بينما دورها التنظيمى والفكرى محل تراجع، ومتروك أمره لمن يسيطر على السلطة فى الحزب، وليس جديدًا على ثقافتنا، كما أن السلطة تولد أدواتها الفاسدة التى تمكن أصحابها من البقاء على غير إرادة الأغلبية، ففى ذلك لنا تاريخ حافل لا يناله شك!. فهل تفعل الدولة دون تراجع أمام ضغوط تعبر عن مصالح أصحابها، ولا تلبى ما نتمناه لحياتنا السياسية بعد طول معاناة لقى فيها الشعب نماذج حزبية شوهت وجه العملية الحزبية، حتى بات العمل الحزبى قليل الشأن فى نظر فئات وتيارات غير قليلة من الشعب المصرى، وهو ما يعبر عن إشكالية كبرى ينبغى الانتباه إلى أهميتها وخطورتها على مسار عملية التحول الديمقراطي، إذ لا يعرف العالم أن تجربة نجحت فى التحول الديمقراطى دون أحزاب قوية، تسعى بجدية إلى مسئولياتها الصعبة فى تحسين الوعى السياسى للشعب، ودفعه إلى المشاركة بجدية فى العملية السياسية، فيمنحها مصداقية وشرعية، ويتبنى قضايا وطنه، ويتحمل فى سبيلها ما لا يمكن أن يتحمله لو أنه بقى بعيدًا لا يدرك من الأمر شيئًا سوى أن للسياسة أصحابها الذين يترددون على الشاشات وأمام الميكروفونات يتحدثون فى قضايا تبتعد كثيرًا عما يشغله من قضايا حياتية متعددة، أغلقت أمامه المجال ليشارك فى العمل العام. ثم يبقى أن تنهض الأحزاب من داخلها بنبذ كل قديم رجعى لا يعترف بالتطورات الجذرية التى أنتجتها الثورة المصرية، ولا بما أحدثته من تغيرات فى مواقف الناس من الشأن العام، ذلك أن الأحزاب لا يمكن أن تقود حياة سياسية ديمقراطية، وهى غارقة فى سُبات عظيم من ذكريات سحيقة، ما كان الدور فيها إلا لرموز تاريخية ولت أيامها، ولن تعود. إذ بقيت السياسة عمل المجموع، لا موهبة الفرد وشخصيته الكاريزمية، إذ لم يعد لدينا حزب يمكن أن يعيش على اسم رئيسه، مهما حاول من تهيئة مشينة لقيم الشللية والمصالح المتبادلة، فيما خنق القرار الحزبى، وجعله حكرًا على مجموعة صغيرة داخل كل حزب، وكأنها مجلس إدارة الحزب، يتحدثون باسم الحزب فى كافة المحافل، ويصوغون سياساته داخل قوالب جامدة من منافعهم الذاتية الرخيصة، بعيدًا عن أبناء الحزب. من هنا افتقدت الأحزاب الحالية كل شعبية يمكن أن تعطيها شرعية وجودها، اللهم إلا حزب عريق، عاش فى وجدان الأمة المصرية، بدفع من تاريخه النضالى والبطولى فى مناهضة الاستعمار، ثم أنه بات لا يدرك موقفًا يعبر به عن تاريخه الطويل، إلا ما يضمه بداخله من صور لرموزه التاريخية التى حفرت بمواقفها النضالية تاريخًا يخطئ من يتصور أنه يمكن أن يصنع وحده حاضرًا ذا بال، أو يهيئ لمستقبل حزبى، للمال دور فيه فى احتكار السلطة.