على نحو فريد، يحظى مصطلح «الأمن القومي» فى خطابنا المجتمعى بكثير من الاهتمام والشيوع، ما جعل منه قاسمًا مشتركًا لكل حديث يستهدف حيازة أكبر قدر ممكن من الثقة والمصداقية. ورغم أن فى ذلك ما يصادف حقائق لا يمكن إنكارها؛ إذ يتسع مفهوم المصطلح، ليشمل مساحات واسعة من العمل الوطني، إلا أن ممارسات شتى تؤكد أن إدراكًا حقيقيًا لعناصر المصطلح «الأمن القومي»، وأوزانها النسبية فى حسابات القوة الشاملة للدولة، لم يجد تطبيقًا فعليًا داخل المجتمع المصري. فواقع الأمر أن تطورًا مشهودًا نال من قدرة الدول على حماية سيادتها على جميع مكوناتها وقيمها ومصالحها من كل تهديد، خارجى أو داخلي؛ ذلك أن عناصر الأمن القومى للدولة وثيقة الصلة بعناصر قوتها؛ ومن ثم فإزاء تنوع مكونات القوة الشاملة للدولة، تمدد مصطلح الأمن القومى ليطأ جميع المجالات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والبيئية وغيرها، إلى جانب العناصر التقليدية الماثلة فى القوة العسكرية والاقتصادية والجغرافية والسكانية. وفى الحالة المصرية، كدولة تسعى إلى بناء نظام سياسى جديد يعبر عن تحول ديمقراطى حقيقي، تبدو «القوة السياسية» محط أنظار معتبرة؛ إذ بموجب ما يتحقق من تصاعد فى القوة السياسية للدولة المصرية، يمكن احتساب خطوات جادة على طريق التحول الديمقراطي، دون أن نغفل عن تداعيات نمو «القوة السياسية» على بقية مكونات قوة الدولة المصرية، الاقتصادية والعسكرية والعلمية والبيئية وغيرها. فى هذا السياق، نشير إلى أن «القوة السياسية» تقاس بمدى التزام الدولة بالمعايير والقواعد الديمقراطية التى حازت قبولًا من المجتمعات الديمقراطية الحديثة، وما عادت قطعًا تقبل جدلًا حول مبادئها، وإن ظلت خصوصية كل مجتمع، وظرفه التاريخي، وسياقه العام، محل اعتبار فى مجال تقييم قوته السياسية. والحال كذلك، فإن «القوة السياسية» للدولة موطنها الرئيسى يشمل جميع أطراف النظام السياسي، الحاكم والعارض على السواء، دون إهدار للمكون الشعبى، ومدى ما يملكه من ثقافة ديمقراطية؛ ومن ثم فإن الصراع السياسى جزء لا يتجزأ من «القوة السياسية» للدولة، خصمًا وإضافة، وبالتالى فإن نموًا متزايدًا فى «القوة السياسية» للدولة المصرية، يُعد مسئولية تتعدى حدود النظام الحاكم، ومؤسساته الرسمية، وصولًا إلى جميع أطراف العملية السياسية، من أحزاب وقوى سياسية غير مشاركة فى الحكم، بوصفها كما ذكرنا من المكونات الأساسية للنظام السياسي. وعلى خلفية المشهد السياسي، الممتد منذ ثورة يناير إلى موجتها الثانية فى يونيو، حتى ظهور إنتاجها الأخير متمثلًا فى البرلمان الجديد، نجد أن مشوارًا شاقًا قطعته التجربة المصرية؛ إذ ينشأ نظام من رحم ثورة، لا يمكنه القفز فوق الدروس التاريخية المقارنة التى تشى بمنعطفات شديدة الخطورة تتعرض لها المجتمعات فى إطار مرحلة الانتقال الديمقراطي، حيث الصراع مستمر بين النظام البائد والقوى الثورية، «لاحظ نجاح كل منهما فى اختراق صفوف الآخر»، إلى أن تتمكن إحدى القوتين من التغلب على الأخرى، فتنجح الثورة، أو يرتد المجتمع إلى هيمنة النظام الذى أسقطت الثورة بعضًا من رموزه، أو كلها، دون أن تتمكن من محوه من الثقافة المجتمعية. وهنا ينبغى الإشارة إلى أن الثورة فى الأساس منظومة من القيم الجديدة، تحملها تطبيقات أمينة وواعية بأفكار ومبادئ وأهداف الثورة، لا مجرد وجوه جديدة، أو مُعدلة حسب الطلب، تأتى لتطبق ذات السياسات، وتنتهج نفس الرؤى الجامدة التى أنتجت أسباب الثورة!. تأسيسًا على ذلك، نجد أن القوة السياسية للدولة المصرية، معطلة فى كثير من أبعادها، فحياة حزبية تضيف إبداعًا وخيالًا سياسيًا خلاقًا، باتت حلمًا بعيد المنال فى ظل تردى الممارسات الحزبية التى انتهكت قواعد ديمقراطية، كان الرهان عليها عاليًا لتضيف خطوات فعالة على طريق التحول الديمقراطي. فليس مقنعًا كل خطاب حزبى يزعم «تمسكًا» بالديمقراطية، بينما ما يُصدره من ممارسات على الأرض، تؤكد انتماء «الأكثرية» منهم إلى قيم نظام مبارك الرديئة، حيث احتكار السلطة منهجًا، وتزاوج السلطة بالمال سبيلًا، مع إضافات «ثورية» زائفة، تتخذ من قيم الثورة مرتكزًا للانطلاق نحو مصالح ذاتية، لعل أهمها وأكثرها وضوحًا استخدام المال فى التأثير على الرأى العام من خلال استناد قوى حزبية إلى ما تملكه من وسائل إعلام. فى استخدام صريح لحرية الرأى والتعبير كأحد المبادئ الديمقراطية الثورية التى تم تفريغها «حزبيًا» من مضمونها الحقيقي. من جهة أخرى، فإن زعمًا حكوميًا أن مجتمعًا جديدًا ينهض فى ظل قيم ثورية يمكن أن تقوده حكومة «تنفيذية»، ما هو إلا مؤشر على عدم إدراك ما هية «القوة السياسية»، وصيغتها فى الدولة المصرية الحديثة التى راهنت عليها الملايين الثائرة فى يناير ويونيو على التوالي. وفى السياق ذاته، لا يمكن لحكومة ما أن تعيش «دائمًا» على شعبية الرئيس السيسي، دون أن تتخذ لنفسها جملة من أسباب ودواعى النجاح فى إدراك دورها فى تنمية «القوة السياسية» للدولة، وهو دور يعبر عنه خطاب واضح يطرح رؤى سياسية مدروسة، قبل أن يعلن عن سياسات عامة صماء ليست على صلة بركائز الأمن الوطني، بمفهومه الشامل؛ إذ لا جدوى من سياسات عامة يغيب عنها دورها فى استشراف التهديدات الداخلية والخارجية، وتأمين مواجهتها، فى إطار من استراتيجية وطنية شاملة تهدف إلى تنمية قوى الدولة، بجميع أبعادها، تحقيقًا لمقتضيات الأمن القومي. وعمدًا، تم إسقاط الجماعة الإرهابية من أى ذكر فى إطار حديثنا عن «القوة السياسية» للدولة، إذ لا نعثر لهم على عمل سياسى حقيقى يمكن أن نرصده بموضوعية فى خضم الصراع السياسي؛ إذ بلجوء الجماعة إلى مرتكزاتها الفكرية المضادة لمبادئ العملية السياسية، وانحسارها داخل حيز المنظمات الإرهابية المسلحة، لا يمكن احتسابها ضمن أطراف النظام السياسي، لا حاكمًا ولا معارضًا، بعد أن باتت تشكل تهديدًا مباشرًا وواضحًا لجميع المشتركات الوطنية الجامعة لأطراف النظام السياسى كافة على اختلاف توجهاتها، ومن ثم فإن «القوة السياسية» للدولة المصرية، تظل حصرًا داخل حدود المشتركات الوطنية، دون أن تتأثر بخروج فصيل مسلح من دوائر السياسة إلى ساحات القتال. ورغم ما لدينا من ملاحظات، يبقى لنا فى البرلمان الجديد منطلق مشروع إلى دعم «القوة السياسية» للدولة المصرية؛ ذلك أن تغليبًا للقوى الثورية يمكن أن يؤكده الأداء البرلماني، فيسعى إلى التمسك بالمكتسبات الثورية التى تضمنها دستور «2014»؛ إذ لاح فى الأفق البرلمانى أن عقبات ستواجه محاولات الهيمنة على أعضاء البرلمان، وتحويلهم بالجملة فى اتجاه معاكس للتعددية السياسية والحزبية، وهنا تتعمق الدهشة، إذ دعمًا للدولة يقتطع «البعض» من قوتها السياسية!. وعليه فإن «القوة السياسية» للدولة، بوزنها الأكبر فى منظومة الأمن القومي، ما زالت فى حاجة إلى إدراك حقيقى بحتميتها فى كل جهد وطنى مخلص، يتحمل عناء التجرد من المصالح الذاتية، و«يشقي» شرفًا رفيعًا، إذ يعبر عن انحيازه للطموحات الشعبية المشروعة.