لا أمل يمكن أن نعوّل عليه كثيرًا، ما لم تغادرنا مفردات شتى داخل ثقافتنا السياسية العتيقة، بما تضمه من ممارسات بالية، ما أثمرت يومًا نجاحًا نبنى عليه، وخطاب جامد، لم يصل على نحو فعال ما بين مؤسسات الدولة والرأى العام من قواسم مشتركة، في ترهلها ينفرط العقد الاجتماعى الراسخ الذي أسس لمفهوم الدولة ككيان قانونى نشأ منذ مئات السنين بديلًا عن العشوائية. فواقع الأمر أن الدولة، أي دولة، فيما تمر به من منعطفات حادة، إنما تعلن بجلاء، بخطواتها وخطابها، عن مكنون شخصيتها، وجوهر ما تعتنقه من قيم سياسية، وحقيقة ما تستند إليه من مرتكزات فكرية. ذلك نموذج واضح، تختلف أو تتفق معه، لكنه مدرك لمساره على نحو قاطع. بينما على الجانب الآخر، نموذج مغاير، إذ تُفصح الدولة فيه أن شيئًا من أمرها لم تدركه خطواتها، إذ تبدو لم تنجح بعد في التقاط صورة أوضح لمسار دقيق يتبنى نهجًا بعينه، أو يعبر عن رؤية وطنية محددة وحاكمة، ومن ثم فهى تُسير أعمالها فحسب، وكأننا إزاء توسيع بحجم الدولة لمفهوم «حكومة تسيير الأعمال»!. فتنطلق الدولة، بشكل عشوائى، مدفوعة بخطى مترددة دون اتجاهات واضحة، بخطاب مضطرب مرتبك، يجمع بغير هدى أشلاء رؤى متباينة، وربما متضادة، فرقتها صراعات مجتمعية لم تنجح بعد في تقديم نموذج وطنى معتبر. وفى المرحلة الانتقالية الراهنة من عمر عملية التحول الديمقراطى، تبدو الدولة المصرية أقرب إلى النموذج الثاني، إذ بأدوات الماضى الفاشل تسعى لتبنى مستقبلًا طموحًا!، وتعلن عن جوهرها بخطاب متخبط، ممتلئ بالعواطف والانفعالات على حساب الموضوعية الواجبة. تفصيلًا لذلك نجده في كثير من أوجه حياتنا السياسية، على نحو شائع يقطع بصعوبة عملية التحول الديمقراطى، وطول المرحلة الانتقالية منها، ومشقة ما تحمله من تضحيات ضخمة لم تشفع لأهداف ثورتنا، ولم تفسح لمبادئها طريقًا على الأرض. فليس من شك، أن تجربتنا الديمقراطية الوليدة لم تحقق نجاحًا يمكن التعويل عليه كثيرًا، إذ لم تكتمل المنظومة السياسية الديمقراطية بما يكفى للنهوض بتحقيق التنمية الشاملة، وفق ما أكدته التجارب الدولية الناجحة من قواعد صارمة، جميعها تشير إلى أولوية التنمية السياسية، كسبيل إلى إدراك تنمية اقتصادية واجتماعية. فما زال الرئيس السيسى، بما حازه من إرادة شعبية كاسحة، منفردًا، يكاد المشهد السياسي يخلو من إنجاز يسانده، ويدفع به إلى فرص أكبر في النجاح، إذ لم تشهد الساحة الداخلية حكومة تليق بقيم ومبادئ وأهداف الثورة المصرية المجيدة في يناير 2011، وموجتها التصحيحية المدهشة في الثلاثين من يونيو 2013. مثلما لم تشهد ثورتنا حكومة على قدر ما يواجهنا من تحديات، ولم تقدم حياتنا الحزبية ما يؤكد جدارتها «النظرية» في قيادة الحياة السياسية. وفى هذا الإطار، وبدافع ثورى محض، لا ينبغى لنا أن ننساق كثيرًا خلف خطاب قديم لطالما أكد عجز النظم المتتابعة على حكم مصر عن اللحاق بطموحات شعبية كبيرة تتناسب وحجم الدولة المصرية. أما بعد الثورة المصرية فلم يعد كافيًا أن نودع كل حكومة تنصرف إلى حال سبيلها بعبارات عقيمة على غرار أنها «أدت ما عليها»!. فما على الحكومة إلا إنجاز جاد مبدع خلاق، ولا أقل من ذلك، إذا تولت أمر إدارة شئون دولة أنجزت ثورة شعبية مجيدة، وأكدت على إرادتها بموجة ثورية ثانية سريعة. أما واقع الحال أننا، ومنذ ثورة يناير 2011، ونحن إزاء حكومات تعمل على مجرد «تسيير أعمال الدولة»، حتى تحولت بمفهوم الدولة إلى «دولة تسيير الأعمال»، فكرًا وعملًا وخطابًا. إن لم يكن الأمر كذلك، فأى إنجاز قطعته الدولة المصرية واستطاعت البناء عليه بحق!. ذلك أن الدستور ما زال مهملًا، ومصيره مشكوك فيه، بعد أن أعلنت بعض القوى البرلمانية، صاحبة الغلبة والدعم، عن رغبتها في إجراء تعديلات على العديد من مواده التي لم تختبر بعد على نحو جاد، بينما يرفض ذلك غيرها من القوى البرلمانية مؤكدين على حتمية إجراء تعديلات في مواضع أخرى من الدستور!. والحال إذن أننا نبدأ البناء بهدم ما تم إنجازه!. من جهة أخرى، يبدو البرلمان، كمنجز ثورى، لم يصل إلى حجم التطلعات المشروعة التي تعلقت به رمزًا للمكتسبات الدستورية، فإذا به وقد مضت من عمره شهور دون أن يخطو باتجاه وظائفه الأساسية، الرقابة والتشريع، ولم يؤكد كذلك دعمه لترسيخ القيم الديمقراطية في المجتمع بأداء منضبط وخطاب موضوعى رصين. إذ انشغل البرلمان بصراع استعاد ممارسات الصراع الانتخابى إلى داخل البرلمان، في ظل غياب تيار يملك مساندة شعبية حقيقية، بعيدًا عن تأثير أدواتنا الانتخابية البالية التي ألحقت السباق البرلمانى بقواعده الرديئة الموروثة. وفى الخطاب البرلمانى يكفى أن نرصد، بعد لغة الحذاء والتهديد والوعيد، ونهج الاستقطاب والغلبة، ما صرح به رئيس البرلمان من أن البرلمان حقق إنجازات هائلة في عمر قصير!. وبهذا المنطق، وعلى هذا النهج نتوقع أن ينهض البرلمان بمسئولياته في بناء دولة حديثة!. وعليه فإن الاختبار القريب أقسى على البرلمان منه على الحكومة، إذ عن إمكانات البرلمان، لا عن قدر الحكومة، تكشف مناقشة البرلمان لبرنامج الحكومة ومنحها الثقة أو حجبها. وفى الحديقة الخلفية للمشهد، وهى مهملة بالطبع، تلهو الحياة الحزبية، إذ تتغنى بما فرضه لها الدستور من مكاسب، وما أفرده لها من مساحات واسعة داخل المجتمع، بينما الأحزاب بقيم الماضى تندفع نحو الإمساك بمكتسباتها الدستورية!. فما زاد من رصيدها شىء لدى الشعب، إذ لم تقدم جديدًا من أداء أو خطاب، ولم تنجح في إفراز كوادر يمكن التعويل عليها بعينها، وإنما هي قدمت النموذج العكسى بنجاح، إذ كشفت أسباب الفشل، عسى أن تتجنبها الأجيال القادمة فتنجح حيث فشلت هي، وتنهض ببناء دولة، اكتفت هي بالنداء عليها!. لتبقى ثقافتنا السياسية حبيسة أدراجها، من شراء الناخب والمرشح، إلى سعى نحو تعديل دستور لم يُختبر بعد، إلى حكومات روتينية ندعى كذبًا أنها «أدت ما عليها»، إلى تعددية حزبية مهملة وهشة، في ظل رئيس أوصلناه إلى سُدة الحكم بإرادة شعبية جارفة، وإذا بنا نخونه إذ حملناه وحده مسئولية بلوغ أهداف ثورتنا.