الفن التشكيلى مجموعة متنوعة من الإبداعات البصرية التى تعكس ثقافات وحضارات الشعوب، ولكل مبدع تجربة تحمل بصمته الخاصة التى تترجمها أعماله.. فى تاريخ الفن المصرى الحديث، تظل تجربة الفنان سيد عبد الرسول (1917-1995) علامة مضيئة فى رحلة البحث عن الهوية البصرية المصرية، فبينما انشغل كثيرون باستلهام المدارس الأوروبية فى المغزى والتكوين واللون، آثر هو أن يغوص فى أعماق الذاكرة الشعبية الساحرة، مستخرجًا منها كنوزه البصرية والروحية، فى لوحاته.. لا يكتفى المشاهد برؤية تكوين بألوان جميلة ومتجانسة، بل يعيش حكاية مصرية كاملة تنبض بالحياة والصدق والدفء الإنسانى. اقرأ أيضًا | إبداعات الفن التشكيلي في الأكاديمية المصرية ب«روما» مدرسة مفتوحة ولد عبد الرسول فى حى الجمالية، ونشأ فى تلك البيئة الشعبية الغنية بالتفاصيل، حيث تختلط أصوات الباعة بنداءات الموالد، وتتعانق تكوينات البيوت فى الأزقة القديمة مع سحر المآذن والأسبلة وزخارفها البديعة، هناك.. وسط هذا المزيج المدهش تفتحت عينا الفنان على عالمٍ يموج بالحياة والرموز، فحمل من طفولته الأولى حسًّا بصريًا فريدًا وقدرة على التقاط الجمال من قلب البساطة، كانت الجمالية بالنسبة له مدرسة مفتوحة، تعلّم منها أكثر مما تعلّمه فى المعاهد والجامعات، إذ شكلت له أول معرضٍ حيّ تتجسد فيه القيم الجمالية للشعب المصرى. ومن تلك الأزقة خرجت رؤيته الفنية التى جعلت منه أحد أبرز من جسّدوا الروح الشعبية المصرية فى لوحات خالدة.. فى لوحاته تتقاطع الأسطورة بالواقع، والرمز بالتفصيل، والتاريخ باللحظة الراهنة، فتبدو كل لوحة كأنها مشهد من مسرح مصرى قديم يفيض بالعاطفة والحنين، تتجاور فيها عروسة المولد مع الحصان الشعبى، والمراكب النيلية مع الزخارف الإسلامية، فى مزيج يُجسد وحدة الهوية المصرية بتنوعها. التجربة الشعبية لم يكن سيد عبد الرسول فنانًا يُجيد الرسم فحسب، بل كان ساردًا بصريًا للحكايات الشعبية، يوظّف اللون ككلمة، والخط كجملة، والمساحة كفصلٍ من رواية طويلة عن مصر، ومن خلال هذا المزج البديع بين الفن والوجدان، صنع لنفسه مكانة رفيعة بين رواد المدرسة الشعبية، مؤكدًا أن الفن الحقيقى يولد من الأرض، من الناس، ومن روح المكان. لوحاته لا تكتفى بعرض المنظر، بل تحكى حكاية كاملة: الموالد، الأسواق، الأعياد، المراكب، الطقوس والعادات.. والحياة الريفية كلها تندمج فى تركيبة تصويرية متقنة، حيث يصبح اللون والخط والزخرفة شاهدين على ثقافة المكان والزمان. تتميز أعماله بالألوان الزاهية التى تعكس طقوس الفرح فى الحياة الشعبية، كما تتميز بالزخارف والنقوش المستوحاة من التراث المصرى القديم (فرعونى، قبطى، إسلامى).. فضلًا عن اهتمامه بالتركيب المتناغم وعلاقته بالرموز الشعبية والواقع اليومى، مما يعطى اللوحة بعدًا سرديًا. صفحات مصرية هكذا يبقى عبد الرسول شاهدًا على مرحلةٍ فريدة من تاريخ الفن المصرى، مرحلةٍ كان فيها الفنان ابنَ بيئته وصوتَ ناسه، لم يكن يسعى إلى المجد أو الشهرة بقدر ما كان يحمل همّ الهوية، ويدافع عن جمال التفاصيل البسيطة التى تشكّل ملامح الحياة اليومية فى مصر، برؤيته استطاع أن يحوّل الموروث الشعبى الملهم إلى ذاكرة بصرية خالدة، تحفظ العادات والألوان والرموز من النسيان، وتعيد تقديمها للأجيال بلغة الفن الرفيع. أعماله ليست لوحات جامدة، بل صفحات مصرية تُروى فيها الحكايات عبر اللون والخط والظل والنور، فى كل لوحة له نجد بهجة المولد، وإيقاع النيل، وضجيج الأسواق، ودفء البيوت الشعبية وعاداتها.. لذلك سيظل سيد عبد الرسول حاضرًا، لا مجرد اسم فى تاريخ الفن فقط، بل كرمز لفنان آمن بأن الشعب هو أعظم مدرسة، وأن الفن الحقيقى يولد من رحم الحياة. لوحة «الصباحية» حصد عبد الرسول عام 1958جائزة الدولة التشجيعية عن عمله الشهير «الصباحية» - من مقتنيات متحف الفن الحديث- وهى لوحة تعد من أبرز ما جسّد فيه روح الريف المصرى واحتفاله بالحياة، تعكس اللوحة مشهد الصباحية فى القرية المصرية، حيث نرى مجموعة من الفلاحات والفلاحين يصطفون بملابسهم الشعبية الزاهية الموشاة بالرسوم والزخارف، يحملون الهدايا للعروسين فى مشهد تفيض منه البهجة والدفء الإنسانى. ورغم أن اللوحة منفذة بألوان الزيت على توال، فإنك تشعر وكأنك أمام جدارية ضخمة لفنان استلهم روح النقوش المصرية القديمة، فقد بنى عبد الرسول التكوين بأسلوب يجمع بين الصياغة الواقعية والتوزيع الجدارى للعناصر، فى توازن بصرى يذكّر بمواكب الحياة المرسومة على جدران المعابد. بهذه اللوحة، أكد الفنان قدرته على تحويل المشهد الشعبى البسيط إلى ملحمة فنية تنبض بالاحتفاء بالجمال والإنسان، وتجعل من «الصباحية» رمزًا للفرح الريفى الذى يتوارثه المصريون عبر الأجيال.