التحقت بالمدرسة الابتدائية عقب انتصار أكتوبر؛ كنت آنذاك أصغر من السن القانونية، وهو ما جعل الناظر يردنى أكثر من مرة على مدار الشهور الأولى، لكننى تشبثت بالمدرسة بكل الطرق؛ فمع كل صباح أستعد فى كامل هيئتى ب«المريلة البيج والشنطة القماش المخلة»، أمسك بيد قاسم «ابن خالى»، وأقف فى صفوف سنة أولى ابتدائى فى انتظار أناشيد الصباح وتحية العلم، وأهتف بكل حماس «تحيا جمهورية مصر العربية»؛ فقد كان المدرسون آنذاك يعرفون قيمة تحية العلم؛ كانت هناك حصة «الأناشيد والتربية القومية»، وقد حفظنا بوعى أناشيد علمنا إياها مدرسون أتوا من مناطق مختلفة؛ من كفر الشيخ والمنصورة والزقازيق والمحلة الكبرى والقاهرة. ورغم أن مدرستنا فى قرية نائية من قرى أسوان، ووسائل الموصلات والاتصالات ووسائل الترفيه لم تكن متوافرة، إلا أن المدرسين لم يجدوا فى الصعيد ذلك المنفى الذى يتوهمه مدرسو هذه الأيام؛ كانوا ينظرون للتدريس والمدرسة بمنظور يحتضن المجتمع ويصنع احترامه؛ منظور الرسالة. وفى سنوات ما بعد النصر طالبوا، وعلى رأسهم الأستاذ أمين محمود خليل، أن يتغير اسم المدرسة من مدرسة «حجازة الابتدائية» إلى مدرسة «الشهيد عبد النبى أحمد إبراهيم»؛ قال لنا الأستاذ أمين: «إن عبد النبى واحد من أبناء قريتنا، دافع عن مصر، حارب كى نسترد أرضنا، واستشهد من أجل أن نعيش»، كما علمنا جمال كامل وجمال سعد (مدرسا الأناشيد والتربية الوطنية) أغنيات الحماس؛ كانت أجواء الحرب حاضرة، ونحن نردد معهما؛ «ما تزعليش يا اماى ستيتة.. النصر جاى وع تبقى زيطة.. وبكره ع أجيكى عاوج البرنيطة، وأبقى حرس ف المدفعية»، ومع الحماس نُقسِّم على اللحن، «موشى ديان راجل غدار.. عامللى قائد وفاتح نار.. أؤمر يا بطل أضربه بالنار.. ده هو زعيم الحرامية». كان علم مصر بخطوطه الثلاثة ونسره الشامخ يرفرف عاليا نظيفا فوق الصارى، وكلما شعر ناظر المدرسة أن التراب يتراكم عليه يقوم بتغييره. كان المدرسون فى فورة نصرهم بتحرير الأرض واسترداد الكرامة؛ «أحمد عثمان» العائد بخريطة من الشظايا ورصاصة فى ساقه اليسرى، و«حسانين» العائد من أرض المعركة بساق مبتورة وابتسامة تغطى وجهه، و«إن مت يا أمى ما تبكيش راح أموت علشان بلدى تعيش»؛ نغمات حاضرة فى القلب. مرت سنوات المدرسة الابتدائية والنصر يتطور داخلنا؛ شعرنا أننا حصلنا على أرضنا بحرب أخرى ومعارك متعددة، وأن النصر انتقل من نصر الميدان إلى نصر السلام، وأن مصر واقفة على قدم وساق؛ لا ترضى ولن ترضى إلا بالأرض العربية كاملة، «غير منقوصة.. إلى آخر شبر»، ولن نقبل إلا بالسلام «العادل والشامل». ورغم شعورنا المتعاظم والمستمر بالنصر، إلا أن صوت مدرسة أكتوبر ظل يتراجع مع بلطجة التلاميذ وقصور رؤية المدرسين، وقد عشنا وشفنا الأناشيد الوطنية، وتحية العلم، وكل القيم التى تشكل الوجدان، تنتهك مع اندثار حصة الأناشيد والتربية الوطنية بالتريقة الصريحة والسخرية من الأناشيد الوطنية، بتركيب كلمات مسخرة لسلع استهلاكية مسخرة أيضا على موسيقى الوطن، كما تقلص طابور الصباح بدرجة أفقدته حيويته وقدسيته ودوره فى العملية التعليمية. وإن كنت كواحد من ملايين التلاميذ الذين التحقوا بالمدرسة، عقب نصر أكتوبر 1973م، أسترجع مآثر المدرسة آنذاك، فإننى أيضا كواحد من ملايين الشباب الآن، أشعر بفجوة كبيرة بين الجيل الذى أنتمى إليه والجيل الذى يلينا بسنوات معدودة لا تتجاوز عشر سنوات؛ فقد باتت الوطنية والالتزام، وقيم أخرى جميلة، مجرد وهم وعاطفية لا طائل منها. وساد أسلوب «كاف. دال» أو «كبر دمغاك» و«وسع الجمجمة» و«دمغاك يا حمادة». والحقيقة أن دماغى مقبلة على انفجار هائل، وأتمنى ونحن فى غمرة احتفالنا بالنصر، أن ننظر إلى مدرسة أكتوبر بشيء من العناية، كى نستعيد ذاكرتنا ونستفيد من دروس الماضى، ونتطور نحو الأفضل. ولن يحدث ذلك إلا بتنمية القيم داخل المدارس، بداية من صورة العلم المرفوع فوق الصوارى، بينما التلاميذ لا يعرفون لماذا يرفرف علم مصر هكذا؛ عاليا، وشامخا، وفريدا. ■ نشر هذا المقال بمجلة الإذاعة والتليفزيون (7 أكتوبر سنة 2000)، فى مناسبة الاحتفال السابع والعشرين بنصر أكتوبر، ورأيت إعادة نشره ليواكب احتفالات الدولة بمرور 42 عاما على النصر؛ ربما يكون فى الإعادة إفادة!