منذ الطفولة وأنا أعرف أن مناخ مصر يتم اختصاره فى جملة «حار جاف صيفا دافئ ممطر شتاء».. هكذا درسنا فى المدرسة الابتدائية والإعدادية والثانوية، ولم يقل أحد منا لأستاذ الجعرافيا لا، حفظنا العبارة باعتبارها أمرا مقدسا لا يمكن الشك فيه. ولأنى كنت تلميذا كارها لمادة الجغرافيا لم يظل فى ذهنى منها إلا هذه الجملة وجملة أخرى عن الرياح الموسمية التى تهب صيفا على اليمن وشرق إفريقيا، فتمطر ونسيم البر والبحر.كيف كنت أنجح فى مادة الجغرافيا حتى الآن لا أعرف! هذا رغم أنه بعد ذلك وحين التحقت بالجامعة قسم الفلسفة قرأت عيون الكتب فى الجغرافيا. وبالذات الجغرافيا السياسية لكن بمزاجى، المهم هو أنى مثل غيرى ظللت مقتنعا بأن مناخ مصر كما علمونا حار جاف صيفا دافئ ممطر شتاء، طفولتى وشبابى كانت فى الإسكندرية، ولم يكن المناخ بالصيف أبدا حارا جافا. كان حارا رطبا دائما. قيل فى تفسير الرطوبة أن المدينة تقع بين شطين ومية، البحر المتوسط وبحيرة مريوط. وأن هذا هو سبب الرطوبة. لكن الرطوبة استمرت بعد أن تم ردم بحيرة مريوط من قبل المحافظين الذين سجلوا فى تاريخ مصر أكبر مصيبتين وهى ردم البحيرات الكبرى وقطع الأشجار على مدى خمسين سنة على الأقل حتى الآن! المهم نعود إلى المناخ الذى عشنا كذبة تفسيره فى كتب المدرسة، كان الجزء الخاص بالشتاء صحيحا. دافئ ممطر شتاء. رغم أن البرد فى شهر طوبة يخلى العروسة كركوبة. شهر واحد. لكن على الإجمال الشتاء ممطر دافئ فى الإسكندرية. مطره بسبب النوات المتعاقبة عليها التى تبدأ بنوة «المكنسة» فى آخر نوفمبر والتى من اسمها تكنس أمطارها الشوارع. وينتهى بنوة «عوّة» فى آخر مارس، والتى من اسمها تعرف أنها نوة رياح خالية من المطر والرياح فيها تعوى فى الطرقات والناس تغلق عليها أبواب بيوتها. ظلت العبارة المدرسية كاذبة بالنسبة لى فى حديثها عن الصيف ولم أعلن ذلك. انتقلت إلى القاهرة للعيش الدائم فى منتصف السبعينات، وجدت الصيف لزجا أكثر مما هو فى الإسكندرية رغم عدم وجود بحر ولا بحيرة. القاهرة تقع بين صحراوين غربا وشرقا وعلى نهر النيل شمالا وجنوبا.، لا يمكن أن يكون النيل سبب هذه الرطوبة، ما علينا، وجدت الشتاء أكثر برودة فلا نسيم للبر والبحر كما هو فى الإسكندرية يجعل الشتاء دافئا. ونسيم البر والبحر للتذكرة فقط يعنى أن البحر بالنهار يحتفظ بحرارة الشمس ثم يعود ينفثها بالليل على المدينة. برودة القاهرة وحرّها لأنها تتمتع بمناخ قارى إذن ولا علاقة لها بالمقولة التى حفظناها حار جاف صيفا دافئ ممطر شتاء. فوضت أمرى الى الله، لقد انتهيت من التعليم ولم يعد يهمنى صحة ما ندرسه من عدمه وعشت كما يعيش الناس حتى لا حظت فى السنوات العشر السابقة على زوال حكم مبارك أن الشتاء يكاد يغيب عن البلاد. ولزياراتى المتكررة للإسكندرية لاحظت أن النوات الشتوية لا تأتى فى مواعيدها بل بعضها يتأخر جدا وأكثرها بات يأتى بلا مطر. اعتبرت أن ذلك من غضب الله على الأمة التى تصبر على الظلم، ولم أعتبر أن لردم بحيرة مريوط دخلًا فى ذلك. وبالمناسبة هى بحيرة تمتد أكثر من ثلاثين كيلو مترا من العامرية إلى منطقة أبيس وعرضها لا يقل عن خمسة كيلومترات وكانت الرياح الغربية تمر عليها فتتحمل بالماء تسكبه فوق المدينة. لم يعد فى ذهنى من بحيرة مريوط إلا أن ردمها تسبب فى ارتفاع أسعار السمك، ودعوت على الذى بدأ ذلك الردم، فالسمك الذى كان أكل الفقراء صار أكل الأغنياء، لأنه لم يعد أمامهم إلا أسماك البحر المتوسط وهى لا تكفى. فإذا عرفنا أيضا أن ذلك حدث مع بقية البحيرات الكبرى، إدكو والبرلس والمنزلة التى لم تردم كلها لكن بقيت منها نسبة تكاد تصل بالعافية إلى عشرة فى المائة. إذا عرفنا ذلك فالدعوات على من كان السبب تزداد، ووالله أدعو عليهم كل يوم هؤلاء المتخلفين الذين ردموا البحيرات من أجل إقامة مزارع سمكية لا تكفى ولن تكفى المستهلك فضلا عن سوء أسماكها. باختصار سمك زبالة وسامحونى، ما علينا، المهم أن ردم البحيرات هذا ساهم فى زيادة الاحتباس الحرارى فى البلاد. معروف طبعا أن هناك احتباسا حراريا فى العالم لكن فى مصر زاد ردم البحيرات منه خاصة أنه أقيمت عليها مصانع كيماوية وبترولية وغيرها مما يقذف فوق المدينة من دخان وتلوث فى الهواء. خلاص. إذن كانت عبارة حار جاف صيفا كذبة قديمة، لكنها ترسخت بما جرى فى البلاد، وفاجأتنا هذا العام بحر لم تعرفه مصر من قبل. حر جعلنى أكاد أفقد عقلى لكن لم يكن أمامى إلا أن أتماسك لأكتب هذا المقال فى الصباح الباكر والحرارة تجاوزت الأربعين والساعة لم تدخل فى السابعة. مصر عادت شمسك الذهب -لا- ليست ذهبا ولا فضة، لكنها جحيم مبكر لا يمكن تفسيره إلا أنه غضب إلهى. كان الله يغضب بمنع المطر لكنه قرر أن يرينا بروفة الجحيم، ماذا فعلنا يا إلهى؟ زعلان من الحكومة خدها لكن ذنبنا إيه؟