هذا حديث عن حياة محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام في بيته.. عن الزوج والإنسان.. العاشق والمحب. أعرض هنا في حلقات متتابعة ل«سيدات بيت الرسول»، استنادًا إلى كتابين قيمين الأول: «نساء النبى»، لبنت الشاطئ الدكتورة عائشة عبدالرحمن، والثانى: «محمد في حياته الخاصة»، للدكتور نظمى لوقا، أستاذ الفلسفة. أدخل إلى «بيت محمد» زوجًا وليس نبيًا، فقد كان يؤثر أن يعيش في بيته رجلًا ذا قلب وعاطفة ووجدًا. توقفت في حلقة أمس عند اتهام الرسول عليه الصلاة والسلام، بأنه «رجل شهوانى» يجرى وراء متعته الجنسية. بالمناسبة أنا لا أرى أي «بطحة» على رأس نبي الإسلام حتى أفعل مثل غيرى بأن أقف مدافعًا، بل إن هذه الكلمات مجرد حديث عن الحياة الخاصة للنبى من منطق التعريف بها لا الدفاع عنها. من بين أشهر الافتراءات حول زواج الرسول عليه الصلاة والسلام من السيدة خديجة رضى الله عنها، أن يكون المال هو المحرك الرئيسى في زواج بين شاب فقير وأرملة كهلة مات عنها زوجان من بنى مخزوم، وتركا لها ثروة ذات شأن. أليست «خديجة» ثرية، متقدمة في السن، وهو عامل شاب وسيم فقير يقوم على تجارتها هو إذن - فيما يزعمون - تزوجها طامعًا، وأخلص لها في حياتها، حتى إذا ماتت انطلق على سجيته في طلب النساء، لا يجد في ذلك مانعًا ولا رادعًا. إن دعوة خديجة جاءت محمدًا وهو يجر كلمات مريرة سمعها من عمه أبى طالب حين خطب إليه ابنته أم هانئ، فرده لفقره وزوجها لذى مال، واستشعر محمد ذلة الفقر ومهانته، فما كاد يسمع رغبة خديجة في الزواج منه حتى أقبل متلهفًا على الثراء يداوى به جرح كرامته التي أهدرها فقره، وفق ما يزعم المستشرق الإنجليزى مرجيلوث. هامش يذكر كتاب «سبيل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد» لمحمد بن يوسف الصالحى الشامى، وهو من مؤرخى القرن العاشر الهجرى، أن النبى عليه الصلاة والسلام خطب ابنة عمه أم هانئ بنت أبى طالب قبل زواجه من السيدة خديجة بنت خويلد، لكن أبو طالب اعتذر منه وزوجها من هبيرة بن أبى وهب المخزومى، وعلل ذلك بتزويج مخزوم بعض نسائهم لبنى هاشم، وأنه رد للجميل. ويذكر نفس الكتاب أن الرسول تقدم لخطبة «أم هانئ» مرة أخرى بعد إسلامها وانفصالها عن هبيرة بن أبى وهب، لكنها اعتذرت بسبب كبر سنها ولرعاية أولادها. هنا تظهر الدكتورة عائشة عبدالرحمن: «ما كان مال خديجة هو الذي جذب محمدًا وجعله يتجاوز عما بينه وبينها من فرق السن، وإنما جذبه إليها جمال شخصيتها، ودماثة طبعها، ولطف سجاياها». هذه الفرية في نظر نظمى لوقا بغير أساس من أولها.. لقد طلبت خديجة محمدًا قبل أن يطلبها، هي سعت إلى الزواج من محمد قبل أن يسعى هو إليها. كان في وسع «محمد» وهو عاملها على التجارة أن يستغل الظروف للتودد إليها كى يستميل قلبها ويضمن قبولها إياه زوجًا على فقره الشديد وثرائها العريض. لو فعل ذلك لجاز أن تقول طامع وصول استغل الفرصة كى يبيع شبابه ويثرى، لكنه عليه السلام فعل نقيض ذلك على خط مستقيم. عاد إليها من الشام بربح وفير، وأدى إليها الأمانة كاملة، وأخذ نصيبه ثم انزوى بعيدًا عنها، إلى أن جاءه رسولها يعرض عليه الزواج منها. يذهب نظمى لوقا إلى أنه لم يكن من أمر الرسول بعد زواجه من السيدة خديجة ما يدل على إسرافه في مالها، كما يفعل النفعيون الذين يتزوجون العجائز الثريات. لم يعمد عليه الصلاة والسلام إلى البذخ في مظهره، بل كان متواضعًا عفيفًا وزاد زهده، وصار يقضى الكثير من وقته صائمًا معتزلًا للناس وحده في الجبل. كانت السيدة خديجة تخرج للبحث عنه كما تبحث الأم عن ابن لها أقلقها طول غيابه وتحمل إليه الطعام، لقد زاد محمد بالزواج من الكهلة عفة واستقامة وزهدًا، وزاد بالزواج من الثرية زهدًا وابتعادًا على ملذات الحياة. هل توقف المستشرقون عند هذا الحد؟ أعجب ما تحدث به أعداء النبى أن وفاءه لخديجة كان نابعًا من تهيب لمركزها المالى والاجتماعى، وخوفًا من أن تطالبه بالطلاق. تسأل الدكتورة عائشة: «فيم إذن كان وفاؤه لها بعد موتها؟.. وهل كان صلى الله عليه وسلم يخاف أن تطالبه بالطلاق وهو يخاصم عائشة فيما بعد وفاتها بسنتين، ويأبى أن تمس ذكراها؟». لقد كانت خديجة ملء حياة المصطفى عليه الصلاة والسلام حيًا وميتًا، وما جاوزت «عائشة» الحق حين قالت لزوجها: «كأن لم يكن في الدنيا امرأة سواها».