إعداد: أحمد صوان إشراف: سامح قاسم اشتهر الفقيه حاتم الأصم بالورع والتوكل على الله.. صادق الإمام ابن حنبل وعلّم كلٌ منهما الآخر، أعرض عن الناس ولم يطلب سوى من خالقه، وضع الموت ووسواس الشيطان نصب عينيه يوميًا حتى يُجاهدهما طيلة يومه، وكان في صلاته يخشى ألا يتقبلها الله فيُحسنها قد ما استطاع. كانت كنيته أبو عبد الرحمٰن، واختُلِفَ مُعاصريه في اسم أبيه، فمنهم من قال إنه حاتم بن عنوان ابن يوسف، ومنهم من قال هو حاتم بن يوسف؛ صحب شقيق بن إبراهيم البلخي، وأسند الحديث عنه وعن شداد بن حكيم البلخي؛ وتلقى منه العلم أحمد بن خضرويه، وروى عنه أناس مثل حمدان بن ذي النون، ومحمد بن فارس البلخيان؛ قال عنه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء"ومنهم المؤثر للأدْوَم والأعم والآخذ بالألزم والأقوم أبو عبد الرحمٰن حاتم الأصم، توكل فسكن وأيقن فركن"؛ وقال فيه ابن خلكان "حاتم بن عنوان الأصم من أهل بلخ كان أوحد من عُرف بالزهد والتقلل واشتهر بالورع والتقشف، وله كلام يُدَوَّن في الزهد والحِكَم"؛ ومدحه الذهبي "الزاهد القدوة الرباني أبو عبد الرحمٰن حاتم بن عنوان بن يوسف البلخي الواعظ الناطق بالحكمة، الأصم، له كلام جليل في الزهد والمواعظ والحكم، كان يقال له: لقمان هذه الأمة". "لي أربع نسوة وتسعة من الأولاد، فما طمع الشيطان أن يوسوس لي في شىء من أرزاقهم". روى ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان" قصة تسميته بالأصم، فنقل عن أبي بكر الوراق قوله "أن امرأة جاءت لتسأله مسألة، فاتفق أن خرج منها في تلك الحالة صوت، فأحمر وجهها وخجلت خجلًا كثيرًا، فصارت كلما سألته جعل يوهمها أنه أصَمُّ ويقول لها: ارفعي صوتك، فقالت في نفسها: لم يسمع الصوت، فسُمي لذلك الأصَمَّ"، وقد روى هذه الحكاية أكثر من واحد، وجاءت في كتاب "طبقات الأولياء"، كما حكاها ابن تغري بردي في كتابه "النجوم الزاهرة". "خرجت في سفر ومعي زاد نَفِدَ في وسط البرية، فكان قلبي في السفر والحضر واحدًا". جاء الأصم إلى بغداد في حياة الإمام بن حنبل، واجتمع به فنفعه وانتفع به، وعن لقاؤهما الأول روى أبو جعفر الهروي "كنت مع حاتم وقد أراد الحج، فلما وصل إلى بغداد قال: يا أبا جعفر أحب أن ألقى أحمد بن حنبل، فسألنا عن منزله ومضينا إليه، فلما خرج قلت: يا أبا عبد الله هذا أخوك حاتم، فسلم عليه ورحب به وسأله: أخبرني يا حاتم فيمَ أتخلص من الناس، فقال: يا أبا عبد الله في ثلاث خصال، قال: ما هي قال أن تعطيهم مالك ولا تأخذ من مالهم شيئًا، وتقضي حقوقهم ولا تستقضي منهم حقًا، وتحمل مكروههم ولا تُكْرِهْ واحدًا منهم على شىء، فأطرق الإمام أحمد ثم رفع رأسه وقال: يا حاتم إنها شديد، فقال: وليتك تسلم، أعادها ثلاث مرات؛ ولما اجتمع نفر من أهل بغداد بالأصم وسألوه: يا أبا عبد الرحمٰن أنت رجل أعجمي وليس يكلمك أحد إلا قطعته لأي معنى، فقال لهم: معي ثلاث خصال أظهر بها على خصمي: أفرح إذا أصاب خصمي وأحزن له إذا أخطأ، وأُخفض نفسي كي لا تتجاهل عليه، بلغ ذلك أحمد بن حنبل فقال: سبحان الله ما أعقله من رجل"؛ وهكذا كان الأصم، أحد إعلام الورع والزهد الذين ذاع صيتهم في الآفاق، وعُرف عنهم الإعراض عما في أيدي الناس والتوكل على الله، إضافة إلى التحلي بحسن الخُلُق والمعاملة. ويروي الأصم إحدى قصص توكله على الله فقال "كنا في حرب مع التُرْك فرماني تركي بوهق فقلبني عن فرسي، وقعد على صدري، وأخذ بلحيتي، وأخرج سكينًا يريد أن يذبحني بها، فما كان قلبي عنده ولا عند سكينه، إنما كان متفكرًا فيما ينزل به القضاء، فقلت في نفسي: اللهم إن قضيت على أن يذبحني هذا الرجل فأنا لك وملكك، وبينما أنا أخاطب نفسي إذ رماه المسلمون بسهم فما أخطأ حلقه"؛ كما روى الحافظ أبو نُعَيم أن رجلًا سأل الأصم "على أي شىء بنيت أمرك في التوكل، فقال: على أربع خصال: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمتُ أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستحٍ منه"، وقال له رجل "بلغني أنك تجوز المفاوز -الصحارى والأماكن المهلكة- بغير زاد، فقال: بل أجوزها بالزاد وإنما زادي فيها أربعة أشياء، قال: ما هي قال: أرى الدنيا كلها ملكًا لله، وأرى الخلق كلهم عباد الله، وأرى الأرزاق كلها بيد الله، وأرى قضاء الله نافذًا في كل أرض لله، فقال له الرجل: نعم الزاد زادك يا حاتم، أنت تجوز به مفاوز الآخرة". "ما من صباح إلا والشيطان يقول لي: ما تأكل وما تلبس وما تسكن؟ فأقول: «آكل الموت وألبس الكفن وأسكن القب". ومن مواعظ الأصم كذلك قوله "مَنْ دخل في مذهبنا ذا فليجعل في نفسه أربع خصال من الموت: موت أبيض وموت أسود وموت أحمر وموت أخضر، فالموت الأبيض الجوع، والموت الأسود احتمال الأذى، والموت الأحمر مخالفة النفس، والموت الأخضر طرح الرقاع بعضها على بعض"، ويروى عنه قوله "العجلة من الشيطان إلا في خمس: إطعام الطعام إذا حضر ضيف، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب، والتوبة من الذنب إذا أذنب" ؛وروى السُلَمي في "طبقات الصوفية" عن أحمد بن محمد بن زكريا أن الأصم قال"مَنْ أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء فهو يتقلب في رضى الله: أولها الثقة بالله ثم التوكل ثم الإخلاص ثم المعرفة، والأشياء كلها تتم بالمعرفة. "الجهاد ثلاثة: جهاد في سِرّكَ مع الشيطان حتى تكسره، وجهاد في العلانية في أداء الفرائض حتى تؤديها، وجهاد مع أعداء الله في غزو الإسلام". ذكر صاحب كتاب "حلية الأولياء" أن عصام بن يوسف مر بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه "فقال: يا حاتم أتحسن الصلاة، قال: نعم، قال: كيف تُصلي، قال: أقوم بالأمر وأمشي بالخشية وأدخل بالنية وأكبر بالعظمة وأقرأ بالترتيل والتفكر وأركع بالخشوع وأسجد بالتواضع وأجلس للتشهد بالتمام وأُسَلّم بالسُّنَّة والإخلاص لله عز وجل، وأرجع على نفسي بالخوف، أخاف أن لا يُقبل مني وأحفظه بالجهد إلى الموت، فقال عصام حينئذٍ: تكلم فإنك تُحْسِنُ تصلي"؛ وقد ظل في هذا الزهد والورع إلى أن جاءته المنية سنة 237 هجرية، وهو ما ذكره الذهبي في سيره عن ابن منده وأبي طاهر السلفي، وكذلك أورد ابن خلكان هذا التاريخ في "وفيات الأعيان".