من يقرأ كتب التراث يعرف أن حاتم الأصم كان فقيها ورعا تقيا زاهدا، وكان في نفس الوقت حكيما، ورغم أنه لم يكن أصم، فقد أطلق عليه حاتم الأصم، والسبب في هذه التسمية، أن امرأة ذهبت إليه لتسأله في أمر من أمور الدين، فخرج منها صوت يذهب بالوضوء، وخجلت المرأة خجلا شديدا، واحمر وجهها، وتلعثم لسانها، فتظاهر هو بالصمم، وطلب منها أن ترفع صوتها لكي يسمعها، وهنا اطمأنت المرأة وأخذت تسأله فيما جاءت من أجله.. ومن هنا أطلقوا عليه حاتم الأصم. واسمه أبوعبدالرحمن حاتم بن عنوان، وكان من خراسان، وانتقل إلي بغداد، وقد روي عنه أن الإمام أحمد ابن حنبل سأله سؤالا حول ما يرضي عنه الناس؟ فقال له حاتم: ثلاث خصال: أن تعطيهم من مالك ولا تأخذ من مالهم شيئا. وتقضي حقوقهم ولا تستقضي أحدا منهم حقا لك. وتحتمل مكروههم ولا تكره أحدا علي شيء فقال له الإمام أحمد: إنها لشديدة! فقال حاتم: وليتك تسلم.. وليتك تسلم.. وليتك تسلم! وكان حاتم هذا شديد الحب لله، شديد الثقة به، ويروي الرواة أنه ذهب إلي الجهاد ضد الترك الذين حاولوا الاعتداء علي حدود الدولة الإسلامية، وأنه أثناء المعركة وقع عن فرسه وأراد أحد أعدائه أن يقتله ويجتز رأسه، فاتجه بكل كيانه إلي الله لكي ينجيه، وبينما رفع هذا العدو سيفه ليقتله رماه أحد المسلمين بسهم أرداه جريحا فقام حاتم بالإجهاز عليه. وقد سئل ذات يوم عن تجواله في البلاد بلا زاد فقال: بل إن معي الزاد، وزادي في أربعة أشياء، أري الدنيا كلها ملكا لله، وأري الخلق كلهم عبادا لله وعياله، وأري الأسباب والأرزاق بيد الله، وأري قضاء الله نافذا في كل أرض الله. فقال له السائل: نِعْم الزاد زادك ياحاتم.. بهذا الإيمان والورع والزهد عاش هؤلاء السلف في حياتهم العادية، وفي جهادهم في ميادين القتال، فكانت رؤاهم لكل الأمور من خلال إيمان عميق بالله، وتوكل عظيم عليه، فكونوا بذلك تراثا خالدا عريضا، وغرسوا مبادئ حضارة الإسلام العظيمة في كل الدنيا، فأضاءت هذه الحضارة للناس الطريق نحو غد أكثر أملا وإشراقا، وأكثر تقدما ورقيا.