إعداد: أحمد صوان إشراف: سامح قاسم "إذا رأيت الصوفي قد سافر بلا ركوة، فاعلم أنه قد عزم على ترك الصلاة". يُنسب هذا القول إلى أبا تراب النخشبي، أحد إعلام التصوف في القرن الثالث الهجرى، وواحد ممن اشتهروا بالورع والزهد حقيقة لا رياء للناس، عبد الله كأنه يراه، وجاهد نفسه قبل أن يُجاهد الخلق، فاستحق ما وصل إليه من مكانة لدى من تابعوه وتتلمذوا على يديه. هو أبو تراب عسكر بن حصين النخشبى، ولد في نواحي بلخ في مدينة نخشب، والتي تحول اسمها إلى نسف فيما بعد، وهى مسقط رأس الإمام النسفي، وتقع حاليًا في جمهورية أوزبكستان، وهو واحد ممن رووا الحديث عن بعض من سبقه، وروى عنه من لحقه، وقد تفقه على مذهب الإمام الشافعى وأخذ عنه الإمام أحمد بن حنبل. وقد شهد بعلمه كثيرون، فوصفه الإمام الذهبى بأنه "الإمام القدوة شيخ الطائفة"، وقال عنه أبو عبد الرحمن السلمى في طبقاته الشهيرة: "إنه من جلة مشايخ خراسان، والمذكورين بالعلم والفتوة والتوكل والزهد والورع". وقال ابن الجلاء: "صحبت ستمائة شيخ، ما لقيت فيهم مثل أربعة؛ أولهم أبو تراب النخشبى". كان النخشبي زاهدًا دون تكلف أو ادعاء، شديد العفاف والاستغناء، وروى من عاصروه عن طباعه وسلوكه التي أكدت هذا، وكان الزهد مرتبطًا لديه بمجاهدة النفس، ونهيها عن شهوات الدنيا وملذاتها، حتى ولو كانت قليلة أو ضئيلة، وكان دومًا يجُدد توبته إلى الله إن وجد في أصحابه ما يكرهه. قال عن نفسه: "ما تمنت عليَّ نفسى شيئًا إلا مرة تمنت عليَّ خبزًا وبيضًا، وأنا في سفر، فعدلت إلى قرية فلما دخلتها تعلقوا بي وقالوا هذا من اللصوص؛ فبطحوني وضربوني سبعين جلدة، فصاح بهم رجل وقال: هذا أبو تراب الزاهد، فأقاموني واعتذروا إليَّ، وأدخلني ذلك الرجل بيته، وقدم لي خبزًا وبيضًا من غير مواطأة، فقلت كُلْ بعد سبعين جلدة". "بينى وبين الله عهد ألا أمد يدي إلى حرام إلا قصرت يدي عنه". وكان يُسلم أمره إلى ربه، فاستغنى به عن العالمين، وكان دومًا ما يُردد قول حاتم الأصم: "للزاهد ثلاث شرائع أولها الصبر بالمعرفة، والاستقامة على التوكل، والرضا بالقضاء"، وكان يقول "الذي منع الصادقين الشكوى إلى غير الله الخوف من الله". وكان يرى أن حقيقة الغنى هي أن يستغني المرء عمن هو مثله، وحقيقة الفقر أن يفتقر إلى من هو مثله. واعتبر أن الصوفي الحقيقي تكون قوته ما وجده، ولباسه ما ستره، ومسكنه حيث نزل. وكان يقول، حسب رواية الحسن بن علوبة: "ليس ينال الرضا من للدنيا في قلبه مقدار"، وكان زهده كذلك كورعه، وتحسبه أن الله يُراقبه في كل كبيرة وصغيرة. ويذكر القشيري في رسالته حكاية تُعزز هذا، حيث نظر يومًا إلى صوفي من تلامذته قد مد يده إلى قشر البطيخ، وقد طوى ثلاثة أيام، فقال له: "تمد يدك إلى قشر البطيخ؟! أنت لا يصلح لك التصوف، ألزم السوق"، وبالنسبة له كان اشتهاء أي شىء، حتى لو كان قليلًا وتافهًا، يضر بيقين المتصوف وثباته. "ثلاثة من مناقب الإيمان: الاستعداد للموت، والرضا بالكفاف، والتفويض إلى الله. وثلاث من مناقب الكفر: طول الغفلة عن الله، والطيرة، والحسد". قال السبكي عنه أنه مرّ بمُزيِّن فقال له: "تحلق رأسًا لله عز وجل"، فوافق وأجلسه، وراح يحلق رأسه، وكان حاكم البلد يمر قريبًا منه فقال لبعض حاشيته: أليس هذا أبا تراب؟ فأكدوا له أنه هو، فقال: "كم معكم من الدنانير؟" فقال له أحد رجاله "معي كيس به ألف دينار"، فقال الحاكم: "إذا قام فاعطه إياها واعتذر إليه وقل له لم يكن معنا غير هذه"، فذهب الرجل بالدنانير وأخبره، فقال له النخشبي: "ادفعها إلى المزيِّن"، فرفض المزين أن يأخذها، فقال الإمام لرسول الأمير: "ارجع بها إليه وقل له إن المزين ما رضى أن يأخذها، فخذها أنت فاصرفها في مهماتك". "اصحب الناس كما تصحب النار، خذ منفعتها واحذر أن تحرقك". ويروى يوسف بن الحسين حكاية أخرى "كُنّا بمكة، فقال أبو تراب: أحتاج إلى دراهم، فإذا برجل قد صبَّ في حجره كيس دراهم، فجعل يُفَرِّقُها على من حوله، وكان فيهم فقير يتراءى له ليعطيه، فنفدت، ولم يعطه، وبقيت أنا وهو والشيخ، فقال له: تراءيت لك غير مرة، فقال: أنت لا تعرف المُعطى"، مُشيرًا إلى أن المال لله تعالى، وأن البشر مجرد وكلاء، وأن ما يعطونه أو يمنحونه إنما هو تنفيذ لمشيئة الله حين يريد أن يجعلهم سببًا للرزق. "الناس يحبون ثلاثة وليست لهم: النفس والروح، هما لله، والمال وهو للورثة.. ويطلبون اثنين ولا يجدونهما: الفرح والراحة، وهما في الجنة". ونُسِبت إلى النخشبي أفعال تنطوي على كرامات جلية، فروى أبوالعباس الرقي: " كنا مع النخشبي في طريق مكة، فعدل عن الطريق إلى ناحية، فقال له بعض أصحابه أنا عطشان. فضرب برجله فإذا عينٌ من ماء زُلال، فقال الفتى: أحب أن أشربه في قدح. فضرب بيده الأرض فناوله قدحًا من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت، فشرب وسقانى، وما زال القدح معنا إلى مكة"؛ وأكمل حديثه "فقال لي أبو تراب: ما يقول أصحابك في هذه الأمور التي يُكرم الله بها عباده؟ فقلت: ما رأيت أحدًا إلا وهو مؤمن بها، فقال: إنما سألتك من طريق الأحوال، فقلت: ما أعرف لهم قولًا فيه، فقال: بلى، قد زعم أصحابك أنها خِدع من الحق، وليس الأمر كذلك، لأنما الخدع في حال السكون إليها، فأما من لم يقترف ذلك فتلك مرتبة الربانيين".