واحد ممن جاهدوا أنفسهم عن كل ما يؤدى إلى الصراع والبغضاء فى الدنيا، وما أكثرهما، وعلى كل ما يفتح باباً وسيعاً نحو رضا الله فى الآخرة، وما أصعبه على ذوى النفوس الشقية. صاحب عظماء الصوفية، وكان ابناً لأحدهم، وهبه لله ونسيه فلم يدعه ربه، اتخذ من بساطة العيش طريقاً، ومن الزهد رفيقاً، ومن المحبة صديقاً، وتحدث فى أمور التصوف فكان فصيح العبارة، واضح الإشارة، ورعاً تقياً نقياً. هو أبوعبدالله أحمد بن يحيى الجلّاء، يعود مسقط رأسه إلى بغداد، لكنه أقام بالرملة ودمشق، وصار مع الأيام من مشايخ الشام الذين يشار إليهم بالبنان فى القرن الثالث الهجرى. وقد صاحب عدداً من أبرز أعلام الصوفية، من بينهم ذو النون المصرى، وأبوتراب النخشبى، وأبوعبيد اليسرى، وأبوعمرو الدمشقى، أحد مشايخ الشام أيضاً، بل أوحدها علماً بعلوم الحقائق. ومن أصحابه كذلك أبوإسحاق إبراهيم بن أحمد بن المولد، وهو من أبرز مشايخ الرقة، وأحسنهم سيرة وسمعة. وقال الجلاء عن بعض أولئك الأعلام: رأيت ذا النون وكانت له العبارة، ورأيت سهلاً وكانت له الإشارة، ورأيت بشر بن الحارث وكان له الورع، وهكذا أخذ من ثلاثتهم أركان تصوفه، فزاوج بين حسن التعبير، وعمق التدبير. وكان الأب صوفياً أيضاً، وكان خادم بشر الحافى، ومن خيار عباد الله الصالحين، ولقى الصوفى الكبير معروف الكرخى. ويروى أبوعبدالله عن والده أنه كان يقول: «يحتاج العبد أن يكون له شىء يعرف به كل شىء»، وقد وهب ابنه لله سبحانه وتعالى، بناء على طلبه. ولهذا حكاية يرويها ابن الجلّاء نفسه فيذكر: قلت لأبى وأمى: أحب أن تهبانى لله عز وجل، فقالا: قد وهبناك، فغبت عنهما مدة، فلما رجعت كانت ليلة مطيرة، فدققت الباب، فقال لى أبى: من ذا؟ قلت: ولدك أحمد، فقال: كان لنا ولد، فوهبناه لله تعالى، ونحن من العرب لا نسترجع ما وهبناه. ولم يفتح لى الباب. ويقول أتباع «التيار السلفى» عن ابن الجلّاء إنه كان من «أهل السنة والجماعة» أو من أعلام «التصوف السنى» وإنه قد روى الحديث، لكن هناك من يقول: لا نعلم أن ابن الجلّاء أسند شيئاً. وشهد له كثيرون، فها هو إسماعيل بن نجيد يؤكد: «كان يقال: إن فى الدنيا ثلاثة من أئمة الصوفية لا رابع لهم، الجنيد ببغداد، وأبوعثمان بنيسابور، وأبوعبدالله بن الجلاء بالشام»، ووصفه أبوالقاسم القشيرى بأنه «من أكابر مشايخ الشام» فيما قال عنه أبوعبدالرحمن السلمى فى طبقاته: «كان عالماً ورعاً». وهناك من يقول عنه: «هو صاحب النكت اللطيفة، أحد أئمة القوم، لم يكن بالشام فى حاله شبيه مذكور، تخرج به جماعة من المذكورين». وقال أبوبكر الدقى: ما رأيت شيخاً أهيب من ابن الجلاء مع أنى لقيت ثلاث مائة شيخ. وكان يقال إنه ثانى ثلاثة لا نظير لهم: الجنيد ببغداد، وابن الجلاء بالشام، وأبوعثمان الحيرى بنيسابور. ويقول ابنه: ما جلا أبى شيئاً قط، ولكنه كان يعظ، فيقع كلامه فى القلوب، فسُمِّى جلّاء القلوب. وتتلمذ على يد الجلاء كثيرون فى مطلعهم أبوالخير الأقطع، الذى ينسب إليه القول: ما بلغ أحد إلى حالٍ شريفة إلا بملازمة الموافقة فى العلم والعمل، ومعانقة الأدب، وأداء الفرائض وصحبة الصالحين. أما الجلاء نفسه فقد تتلمذ على أيدى كثيرين، يذكر واقعة جرت له مع أحدهم، من دون أن يفصح عن اسمه، حين يقول: كنت أمشى مع أستاذى، فرأيت حدثاً (صبياً) جميلاً فقلت: يا أستاذى، ترى يعذِّب الله هذه الصورة؟ فقال: أو نظرت إليه سترى غبّه (أى عاقبته) قال: فنسيت القرآن بعده بعشرين سنة. وفى رواية أخرى: «فبقيت عشرين سنة وأنا أراعى ذلك فما أجد ذلك الغب؛ فنمت ليلة وأنا مفكر فيما قال لى الأستاذ، فأصبحت وأنا قد أُنسيتُ القرآن». وله حكاية أخرى مع صاحبه أبى عبيد اليسرى، حيث يقول: «قدمت على أبى عبيد فأخلى لى بيتا، فكان يأتينى بعد صلاة العشاء الآخرة، فيقف على الباب، فيقول: ما أظن أبا عَبْدالله يعدل بالوحدة شيئاً، فأقول: إلا منك، فيقول: إلا منى؟ فأقول: نعم، فيدخل، فيذاكرنى إلى أن يؤذن المؤذن بصلاة الفجر، فنخرج ونصلى». وللجلاء تعريف عميق للتصوف، يوضح فيه أن الراسخين فى الإيمان يرون الكون كله ناقصاً، ما دام لم ينشغل الإنسان برب الكون، من له الكمال والجلال، ويعبر عن هذا قائلا: «التصوف رؤية الكون بعين النقص، بل غض الطرف عن كل ناقص بمشاهدة من تنزه عن كل نقص». وسئل ذات مرة عن معنى الصوفى فقال: «ليس يعرف من شرط العلم ومعناه مجرد من الأسباب كأن الله معه بكل مكان، فلا يمنعه الحق من علم كل مكان فسمى صوفياً». وأنشد ذات يوم مخاطباً ربه، سبحانه وتعالى، راغباً فى الوصول إليه، ومبيناً كيف يراه نصب عينيه بلا انقطاع، وينشغل به فى كل لحظة بلا كلل ولا ملل: «خيالك حين أرقد نصب عينى إلى وقت انتباهى لا يزول وليس يزورنى صلة ولكن حديث النفس عنه هو الوصول». ويفرق ابن الجلاء بين الزاهد والعابد والموحد فى عبارة دالة يقول فيها: «من استوى عنده المدح والذم، فهو زاهد، ومن حافظ على الفرائض فى أول مواقيتها فهو عابد، ومن رأى الأفعال كلها من الله، فهو موحد لا يرى إلا واحداً». وكان ابن الجلاء يدعو إلى التوكل على الله، وألا ينشغل الإنسان بما سيأتيه من رزق فى قابل الأيام، لأن هذا الانشغال يلهى النفس عن تلمس طريق الحق، ويجعلها فى عوز دائم إلى الناس، وهنا يقول: «اهتمامك بالرزق يزيلك عن الحق، ويفقرك إلى الخلق». ومن الحكايات التى تروى للدلالة على توكله، تلك التى يقصها علينا حمدان بن بكرى قائلاً: «لقيت أبا عبدالله بن الجلاء فى الطواف فقال لى: من أين أحرمت؟ قلت: على طريق تبوك، قال: على التوكل؟ قلت: نعم، قال: أنا أعرف من حج اثنتين وخمسين حجة على التوكل، وهو يستغفر الله تعالى منها، قلت: يا عم! بحق هذه البنية (يعنى الكعبة)، من هو؟ قال: أنا، وأستغفر الله من ذلك، وبكى». وهناك حكاية أخرى يقول فيها: «كنت يوماً جالساً عند معروف، فجاء رجل، فقال له: رأيت أمس عجباً! اشتهى أهلى سمكة فاشتريتها، فبينما أنا أطلب من يحملها إذا بصبى ملتف بعباءة، معه طبق، فقال: عم! تحمل عليه؟ قلت: نعم، فحملها، فمررنا بمسجد يؤذن فيه الظهر، فقال: يا عم! هل لك فى الصلاة؟ قلت: نعم، فطرحها ودخل المسجد وصلى، فلما أقيمت الصلاة قلت: صبى توكل على الله فى طبقه، ألا أتوكل على الله فى سمكة؟ فتركتها وصليت، وخرجت فإذا هى بحالها، فحملها، ثم عاد إلى ما كان عليه من الذكر إلى أن وصل إلى منزلى، فأخبرت أهلى خبره، فقالوا له: كل معنا، فقال: إنى صائم، فقلت: تفطر عندنا، قال: نعم، فأين طريق المسجد؟ فدللته عليه، فلم يزل راكعاً ساجداً إلى العصر. فلما صلى العصر جعل رأسه بين ركبتيه إلى الغروب، فصلى، فقلت له: هل لك فى الفطور؟ قال: على العادة، قلت: وما هى؟ قال: بعد العشاء، فلما كان بعدها أخذته إلى البيت، وغلقت الباب، وكانت لى ابنة مقعدة فى بيت الدار منذ زمان، فبينما نحن فى جوف الليل، وإذا بداق يدق باب البيت، فقلت: من هذا؟ قالت: فلانة، فبادرناها، فإذا هى تمشى، فقلنا: ما شأنك؟ قالت: لا أدرى، إنى سهرت الليلة، فألقى فى نفسى أن أسأل الله بحق ضيفكم، فقلت: إلهى! بحق ضيفنا إلا أطلقتنى، فكان ما ترون، قال: فبادرت البيت أطلب الصبى وإذا الباب مغلق، وهو قد ذهب. قال: فبكى معروف، وقال: نعم، منهم كبار وصغار!». وقال أبوعبدالله الجلاء: «أعرف من أقام بمكة ثلاثين سنة لم يشرب من ماء زمزم إلا ما استقاه بركوته ورشاؤه». وقد اعتبر الجلاء أن من يصل إلى «المحبة» فقد ارتقى شأنا عظيما على طريق التصوف، وقيل ذات مرة له: «هؤلاء الذين يدخلون البادية بلا عدة ولا زاد يزعمون أنهم متوكلة فيموتون، قال: هذا فعل رجال الحق، فإن ماتوا فالدية على القاتل». وحين كان يسأله الناس عن المحبة يقول لهم: «ما لى وللمحبة أنا أريد أن أتعلم التوبة». وفى رواية أخرى: «مالى ولها! أنا أريد أن أتعلمها». وكان يقول فى المحبة: «الدنيا أوسع رقعة، وأكبر زحمة، من أن يجفوك واحد فلا يرغب فيك آخر» ثم ينشد: «تلقى بكل بلاد إن حللت بها أهلاً بأهل وجيراناً بجيران». وينشد أيضاً فى باب المحبة، قصيدة يبين فيها كيف يسهر ليله متفكرا فى ربه، هائما به عشقا، يقول فيها: «أراعى النجوم، ولا علم لى بعد النجوم بجنب الظلام وكيف ينام فتى لا ينام إذا نام عنه عيون الحمام أسير يسير إليه هواه فيضحى الأسير قتيل الغرام فلم يبق منه سوى أنه يقال له: عاشق، والسلام لفرط النحول، وحر الغليل وحزن مذيب لطول السقام». وهناك قصيدة أخرى فى العشق الإلهى يقول فيها: «لولا مدامع عشاق ولوعتهم لبان فى الناس عز الماء والنار فكل نار فمن أنفاسهم قدحت وكل ماء فمن عين لهم جارٍ». وآمن الجلاء بأن طريق الحق واحد وواضح، لا لبس فيه ولا مداراة ولا تحايل، وفى هذا ينسب إليه أبوعبدالرحمن السلمى فى طبقاته القول: «من علت همته على الأكوان، وصل إلى مكونها؛ ومن وقف بهمته على شىء سوى الحق، فاته الحق، لأنه أعز من أن يرضى معه بشريك». وسئل الجلاء مرة أخرى عن الحق، فقال فى ثقة متناهية: إذا كان الحق واحدا يجب أن يكون طالبه واحدانى الذات. وكان يقول أيضاً فى هذا الشأن: «الحق استصحب أقواما للكلام، واستصحب أقواما للخلة. فمن استصحبه الحق لمعنى ابتلاء بأنواع المحن، فليحذر أحدكم طلب رتبة الأكابر». وقال أيضاً: «سمت همم المريدين إلى طلب الطريق إليه، فأفنوا نفوسهم فى الطلب، وسمت همم العارفين إلى مولاهم فلم تعطف على شىء سواه». وهنا يقول كذلك: «من بلغ بنفسه إلى رتبة سقط عنها، ومن بلغ به ثبت عليها». ويدعو الجلاء مريديه إلى أن يأنسوا الله فى قلوبهم وأمام عيونهم، ممتزجا فى نفسه المقدس بما يأنس، ويقول: «لا يطيب العيش إلا لمن وطئ بساط الأنس، وعلاه على سرير القدس، وغيبه الأنس بالقدس، والقدس بالأنس، ثم غاب عن مشاهدتهما بمطالعة القدوس». وكما جاء فى «الرسالة القشيرية» فإن الأنس عند المتصوفة أتم من البسط، وهو عندهم مع الهيبة فوق القبض، الذى هو أعلى درجة من الخوف، وفوق البسط الذى هو أرفع منزلة من الرجاء. وحالة الهيبة والأنس، وإن جلتا، فأهل الحقيقة يعدونهما نقصا لتضمنهما تغير العبد، فإن أهل التمكين سمت أحوالهم عن التغير، وهم محو فى وجود العين، فلا هيبة لهم ولا أنس، ولا علم ولا حس. ويتحدث ابن الجلاء عن الفقر، باعتباره سترا، وليس عورة، إن استغنى الإنسان بربه عمن سواه، ولم يشكو من عوزه لأحد، ورضى من الدنيا بالقليل، وهنا يقول: «آلة الفقير صيانة فقره، وحفظ سره، وأداء فرضه». بل كان يدعو الفقراء إلى أن يرفعوا رؤوسهم ويمشوا بخيلاء، غير منسحقين أمام حاجتهم أبدا، ولذا كان يقول: «لولا شرف التواضع كان حكم الفقير إذا مشى يتبختر». وسُئل ذات يوم عن الفقر، فسكت، ثم ذهب ورجع عن قرب، ثم قال: «كان عندى أربعة دوانق، فاستحييت من الله تعالى أن أتكلم فى الفقر وهى عندى فذهبت فأخرجتها». ثم قعد وتكلم فى الفقر وهو جيوبه خالية تماما. وسئل مرة أخرى عن الفقر، فقال: اضرب بكميك الحائط وقل ربى الله فهو الفقر. ووجه إبراهيم بن المولد ذات يوم سؤالا إلى ابن الجلاء: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟ فأجابه: إذا لم يبق عليه بقية منه، فقلت: كيف ذاك؟ فقال: إذا كان له فليس له، وإذا لم يكن له فهو له. ولما مات ابن الجلاّء يوم السبت الثانى عشر من رجب سنة 306 ه نظروا إليه، وهو يضحك: فقال الطبيب: إنه حى. ثم نظر إلى مجسته فقال: إنه ميت. ثم كشف عن وجهه، فقال: لا أدرى أهو ميت أم حى! وكان فى داخل جلده عِرق على شكل الله. فكان إذا جاء إنسان ليغسله لبسته منه هيبة لا يقدر على غسله حتى جاء رجل من إخوانه فغسله وكفنه وصلى عليه ودفن.