لم يعد التصوف علماً يتناقله الأبناء والمريدون عن شيخهم ومن كتبهم الخاصة فقط بل صار علماً يتم تدريسه في الجامعات أيضا. هذا ما يؤكده الدكتور جمال المرزوقي أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف بكلية آداب جامعة عين شمس مشيراً إلي أن التصوف لم يعد علماً بالتناقل فقط بل صار علماً يُدرس وله مناهجه وعلومه وطرق تدريسه. وصف د. المرزوقي رجال التصوف بأنهم أولئك الذين عنوا بجانب السلوك والأخلاق. علي أساس من التجربة الروحية العميقة. ويُعرف علمهم باسم "علم التصوف" أو "علم الحقيقة" أو علم "السلوك" والتمييز بين "التصوف" وبين علم الكلام "الباحث في العقائد" وعلم الفقه "الباحث في الأحكام الفروعية العلمية" تمييز اعتباري فقط. وليس حقيقياً. فالأصل في الشريعة انها واحدة. فعلم الفقه يستند إلي علم الكلام استناد الفرع إلي الأصل. وعلم التصوف يستند إلي علمي الكلام والفقه. فلابد للصوفي من علم كامل بالكتاب والسنة. ليصحح اعتقاداته وعباداته ومعاملاته علي اختلافها.. استمع إلي الشعراني يقول في طبقاته: هو "أي علم التصوف" علم انقدح في قلوب الأولياء. حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة. والتصوف إنما زبدة عمل العبيد بأحكام الشريعة. هذا هو الجنيد "توفي 297 هجرية" أعمق صوفية القرنين الثالث والرابع الهجريين كلاماً عن التوحيد والفناء فيه يقول: "من لم يحفظ القرآن. ولم يكتب الحديث. لا يُقتدي به في هذا الأمر "يقصد التصوف" لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة". ويقول أيضا: "الطرق كلها مسدودة علي الخلق. إلا علي من اقتفي أثر الرسول صلي الله عليه وآله وسلم. واتبع سنته ولزم طريقته. فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه". لغة أخري أضاف د. المرزوقي: ونحن مع التصوف نعايش لغة أخري. لغة القلب. الوجدان. الحدس. الكشف. الذوق. العيان المباشر.. والتصوف يستهدف القلب لينزع منه السواد. ليعود القلب نقياً مثل بطن اللؤلؤة.. شفافاً شفافية ضمير جنين في بطن أمه.. لتعود نفسه إلي الفطرة التي وُلد عليها.. فيسهل عليه الاتصال من جديد بخالقه وبارئه ومُصوره تبارك وتعالي. فالقلب موطن الإيمان والحب والتقوي والفهم والتعقل.. لذلك يقول تعالي: "كتب في قلوبهم الإيمان" وأيضا "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" ويقول أيضا "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها. أو آذان يسمعون بها. فإنها لا تعمي الأبصار. ولكن تعمي القلوب التي في الصدور..". وأشار صلي الله عليه وسلم إلي ناحية القلب في صدره وقال: "الإيمان ها هنا. والتقوي ها هنا".. قال صلي الله عليه وآله وسلم: "الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل". جذور التصوف وقال: لا شك ان البذور الأولي للتصوف الإسلامي. من حيث هو علم للمقامات والأحوال. أو بعبارة أخري. من حيث هو علم للأخلاق الإنسانية والسلوك الإنساني. موجود في القرآن الكريم. وفي حياة النبي صلي الله عليه وآله وسلم وأخلاقه وأقواله. وحياة الصحابة وأقوالهم. ومن هنا يكون التصوف من حيث نشأته الأولي آخذاً من الإسلام. وهذا بعض التفصيل والتوثيق لذلك. أولاً: جميع مقامات وأحوال ورياضات الصوفية. التي هي موضوع التصوف أساساً مستندة إلي شواهد من القرآن الكريم. ""مجاهدة النفس". وبداية الطريق إلي الله. تستند إلي "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين". وأيضاً: "وأما من خاف مقام ربه. ونهي النفس عن الهوي. فإن الجنة هي المأوي..". مقام "الشكر" يستند إلي قوله تعالي: "لئن شكرتم لأزيدنكم". مقام "التوكل" يستند إلي قوله تعالي: "ومن يتوكل علي الله فهو حسبه" كافيه. حاميه. راعيه. ناصره. محقق رغباته وآماله. مقام "الرضا" يستند إلي قوله تعالي: "رضي الله عنهم ورضوا عنه". لاحظ. الرضا متبادل بين "الرب" و"العبد"". مقام "الحياء" يستند إلي قوله تعالي: "ألم يعلم بأن الله يري". مقام "الفقر" يستند إلي قوله تعالي: "والله الغني وأنتم الفقراء". والفقر هنا بمعني الافتقار إلي الله تبارك وتعالي. حال "المحبة" ويستند إلي قوله تعالي: "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه. فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه" لاحظ هنا "المحبة" متبادلة بين "الرب" و"العبد". رياضة "الولاية" والله تعالي يقول: "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" و"الولاية" هنا بمعني والاه الله بالطاعات. وحياته صلي الله عليه وآله وسلم كانت مصدراً استمد منه الصوفية الأول. فهي قبل البعثة تنطوي علي معاني الزهد والتقشف والانقطاع والتأمل في الكون استكناهاً لحقيقته. وهي صورة أولي للحياة التي سيحياها فيما بعد الزهاد والصوفية. أما حياته صلي الله عليه وآله وسلم بعد البعثة. فحافلة بالمعاني الروحية التي وجد فيها الصوفية منبعاً فياضاً لهم. فكان صلي الله عليه وآله وسلم آخذاً نفسه بالتقشف. كثير العكوف علي العبادة والتهجد. حتي لقد نهاه القرآن عن ذلك في قوله تعالي: "طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقي". أما عن أخلاقه صلي الله عليه وآله وسلم فقد بلغ فيها الكمال. "وإنك لعلي خلق عظيم" آية في الحلم. في التواضع. وله أقوال في الزهد: "ازهد في الدنيا يحبك الله. وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس". "إذا أراد الله بعبد خيراً. فقهه في الدين. وزهده في الدنيا. وبصره بعيوبه". "إذا رأيتم من يزهد في الدنيا. فادنوا منه. فإنه يلقي الحكمة".