أفتقد كوني أنثى.. أفتقد كوني أنا.. قالتها بشجن ممزوج بقهر دفين لا يخطئه إحساس النساء.. فتاة عادية فى عالم موحش قدمت للقاهرة من أجل الدراسة والعمل رسمت في مخيلتها أحلاما بأجنحة ذهبية، ما لبثت أن تلاشت مخلفة وراءها وردية المشهد فقط ليس إلا. جاءت بمفردها إلى المدينة والأنثى المنفردة دائما ما توقظ شهية الرجال وحيدة تغرد خارج السرب سهلة القنص والافتراس، منذ أن وطأت قدمها محطة القطار لتسكنها العاصمة قبل أن تسكن فيها وهى تواجه مجتمع لا تعلم عنه شيئا سوى أقنعة بريئة تخفي وراءها رغبات شيطانية، ما عاد يجدي الاختباء منها والتقوقع على النفس ودفن الرأس في الرمال تفاديا لتلك الذئاب الشرسة، فلا سبيل لحياة آمنة إلا بالاحتراق ذاتيا في خضامها، خلعت عنها ثوب الأنثى وخبأته في صميم الفؤاد علها توقظه من سبات عميق في يوم ما. كانت أولى صدماتها عندما تعرضت لمحاولتي اختطاف نجت منهما بأعجوبة، واحدة على يد سائق ميكروباص والأخرى قام بها سائق تاكسي، لم تلبث أن تتعافى نفسيا من هاتين الحادثتين إلا وقد استجمعت قواها لتعتدي بالضرب على أحد الأشخاص الذي قام بخلع بنطاله أمامها هي وصديقتها في الشارع وقت الظهيرة، غير آبه بالمارة أو بأي أعراف أو قوانين، طاردها المتحرش كما تُطارد الفريسة من القناص، فقررت أن تكون إيجابية ولا تستهين بكرامتها فذهبت لتحرير محضر في قسم الشرطة ضد شاب آخر قام بمطاردتها بدراجته البخارية حتى منزلها وهي عائدة من عملها فلم تجد أي اهتمام يذكر من رجال الشرطة بشكواها عارضين عليها الصلح مع الجاني طالما اقتصر الأمر على المطاردة وخروجها من تحت براثن هذا الرجل وهي سليمة البدن. كل ما تعرضت له كان كفيلا ببث الرعب وعدم الثقة في روحها، فوصفت نفسها ب" النحس" رغم أني حسبتها أنثى محلقة بأجنحتها فوق كل مآسيها أرادت الحياة والبقاء فاختارت دور "النمرة" لا دور الفريسة تلك النفسية الرقيقة الهشة التي عانت من مشاعر متضاربة بين الخضوع لواقع المجتمع المرير من مُسلُمات لا معنى لها وبين التحرر من قيود ظالمة نزعوا عنها أجنحة الفراشة لتخضع وتكف عن الطيران، فإذا بها تنفض عن نفسها بقية منها وتنهض تخيط أجنحتها من جديد. إن مجتمع اعتاد على تضييق الخناق على الأنثى وجعلها تدور في دائرة مفرغة لا حدود لها سوى العدم، تربى على أمثال "اكسر للبنت ضلع يطلع لها أربعة وعشرين" البنات همّ للممات" "والبنت يا تسترها يا تقبرها" أحاط النساء بكم خانق من الأقوال والأفعال مما شأنه أن يحط من كرامة المرأة ومكانتها وترسيخ ثقافة ذكورية قاتلة تعيب على الأنثى استسلامها للمتحرش أو المغتصب وتعيب عليها أيضا تصديها له. وأصبح اهتمام المجتمع المصري بجرائم التحرش اهتمامًا وقتيًا يتأرجح صعودا وهبوطا بحسب ما تقتضيه البروباجندا الإعلامية، وهو ما يؤكد عدم الإحساس بخطورة هذه الجريمة حتى الآن، واعتبارها مجرد حوادث فردية رغم زيادة عدد الحالات التي تعرضت لمثل هذه الانتهاكات، ورغم اعتبار التحرش جريمة وفقا للقانون المصري، يحاكم مرتكبها استنادا إلى المادتين 306 (أ)، و306 (ب) من قانون العقوبات بالسجن لمدة تترواح ما بين 6 أشهر إلى 5 سنوات، بالإضافة إلى غرامة قد تصل إلى 50 ألف جنيه مصري إلا أنه حتى الآن فالوعي المجتمعي بطبيعة الأنثى واحتواء ضحايا التحرش نفسيا وبدنيا وتأهليهم للانخراط في المجتمع مرة أخرى والقصاص من الجاني بحاجة إلى مزيد من الجهود المجتمعية والمنظمات الشاغلة بحقوق المرأة. إن إعطاء المتحرش دوافعا وأسبابا لارتكاب جريمته كالكبت الجنسي أو ملابس الفتاة وأخلاقها كفيلا بنسف بنية المجتمع فحوادث التحرش أثبتت أنها غير مرتبط بحالة اجتماعية أو مستوى تعليمي معين، فهي في الأصل جريمة لها انعكاساتها السلبية على الضحايا اللاتي يفقدن القدرة على الانخراط في بيئتهم المحيطة مرة أخرى وشعورهن الدائم بالخوف وافتقاد الأمن والأمان، ففاقد شعور الأمن والأمان إما أن ينطوي على نفسه أو يتجه إلى العنف، ووضع خط أحمر بينه وبين مجتمعه كدرع يحتمي به، وبدلا من أن تكون الأنثى مجني عليها تصبح جانية ومحض جريمة.