لم يحيرني كاتب في حياتي كما فعل معي إحسان عبدالقدوس، في بيتنا كانت تحدث مشاجرة أسبوعية بسببه، أبويا يريد أن يحتفظ بمجلة "روزاليوسف" معه ليقرأ مقال "إحسان" الأسبوعي "على مقهى في الشارع السياسي" وأمي تريد أن تستكمل فصول إحدى رواياته التي كان ينشرها مسلسلة على صفحات المجلة، وفي المساء يجتمعان سويا بجوار "الراديو" ليستمعان لبرنامجه الإذاعي وهو يختمه بعبارته الشهيرة "تصبحوا على خير.. تصبحوا على حب". كثير من قراء إحسان عبدالقدوس خلطوا بين ما يقدمه في رواياته وحياته الشخصية، لدرجة أن بعضهم تمادى في خياله وتخيل "إحسان" في حياته الخاصة، هو خليط من أبطال رواياته سكيرًا، عربيدًا، مستهترًا، متسيبا في بيته المفاجأة التي كانت في انتظارنا قراء ومعجبين ومهتمين بمسيرة هذا الكاتب الكبير، أن إحسان عبد القدوس، كان في بيته محافظًا، لم يسمح لزوجته السيدة الفاضلة "لولا المهيلمي" بالظهور في برامج تليفزيونية، أو إجراء مقابلات صحفية، أو مشاركته الحفلات التي كان يضطر لحضورها بحكم مناصبه العديدة، سواء رئاسة التحرير لكبريات الصحف والمجلات، أو حفلات افتتاح أفلامه، يكفي ما حدث بينه وبين ابنه المهندس أحمد عبدالقدوس، الذي تزوج سرًا من نجمة سينمائية شهيرة، وعندما علم إحسان بهذا الزواج السري، تدخل بقوة حتى ينتهي الزواج إلى الطلاق وفورًا أرسل ابنه أحمد لاستكمال دراسة الهندسة في أمريكا، رغم أن هذا الموقف من زواج ابنه من الممثلة، وضعه في مأزق حقيقي أمام قراءه والوسط السينمائي الذي يتعاون معه في شراء قصصه وروايته وتحويلها إلى أعمال سينمائية! وبدأت تطرح حوله الأسئلة الساخنة في جلسات النميمة الخاصة، من نوعية الازدواج الذي يعانيه في شخصيته! يكتب رواية "أنا حرة" ويمنع زوجته من الظهور في أجهزة الإعلام!! يتفاخر بعمل أمه "روز اليوسف" في الفن، ويرفض زواج ابنه من ممثلة! الاجابات هنا على الغاز "احسان" فضلت أن تكون على لسان إحسان" نفسه من مجموعة حوراته الرائعة مع الأستاذ محمود فوزي الذي ضمها في كتاب بعنوان "إحسان عبد القدوس بين الاغتيال السياسي والشغب الجنسي" يقول الاستاذ احسان: "اعتبر أن أساس مسئولية أي امرأة هو البيت والأولاد، وهذا ينطبق بالدرجة الأولى على حياتي، فلولا زوجتي ماكنت أستطيع تحقيق الأسرة والاستقرار والنجاح لأنها متفرغة للبيت والأولاد، وهذا ما جعلني لا أتمني في حياتي أن أتزوج أي امرأة تعمل!.. من البداية أدركت مسئولية البيت الخطيرة للمرأة. ويستكمل "احسان" إجاباته ونتوقف هنا أمام لماذا رفض زواج أبنه من الممثلة؟.. هو يقول: " لم يكن الرفض متعلقا بشخصية الممثلة بالعكس أنا أكن لها كل الاحترام، لم يكن من الممكن أن أوافق على زواج أبنائي قبل حصولهم على شهادتهم الجامعية، كان رأي واضحا ومحددا وأنا أعارض هذا الزواج، ليس من حق أحمد إن يقدم على أي خطوة إلا بعد الانتهاء من دراسته، يحدد شخصيته الأول ثم يصبح حرًا فيما يراه، أو يختاره!" كثير ممن لفقوا الحكايات الوهمية حول "إحسان" في حياته الخاصة، تناسوا تأثير نشأته الأولى في بيت جده في العباسية، هذا الحي العريق، من أحياء القاهرة المحكوم بالعادات والتقاليد الصارمة. ولان احسان لا يمكن اختصاره في الروائي أو القاص أو ابن (الست) لا بد أن نقترب أكثر من شخصية إحسان السياسي، عندما تعرض الرئيس السادات للفصل من الجيش المصري بسبب تورطه في النشاط السياسي، ذهب إلى صديقه الصحفي إحسان عبدالقدوس، طالبا منه التوسط عند أمه السيدة فاطمة اليوسف حتى تقبل أن تعينه صحفيا في "روزاليوسف"، ولكنها رفضت من منطلق حساباتها السياسية في عدم استفزاز القصر الملكي الذي كان غاضبا على السادات بسبب اشتراكه في قضية اغتيال "أمين عثمان" لم يتخل إحسان عن صديقه السادات في هذا الموقف العصيب وذهب معه إلى "إميل ذيدان" صاحب "دار الهلال"، متوسطا عنده أن يعين السادات، ولكن زيدان اعتذر له هو الآخر للضائقة المالية التي تمر بها "دار الهلال" في هذا الوقت كان إحسان يكتب في دار الهلال نظير أجر 80 جنيها في الشهر، وأمام الظروف المادية التي يمر بها السادات لم يجد إحسان بديلا أمامه إلا عقد اتفاق سري مع صاحب "دار الهلال" أن يقبل بتعيين السادات في المجلة محررا ويمنحه نصف راتبه، بشرط ألا يعلم السادات حتى لا يتعرض للإحساس بالإهانة، وتمضي الأيام بالصديقين، واحد يصبح كاتبا كبيرا شهيرا، والآخر رئيس جمهورية، ولأن السياسة في كثير من الأحيان لا تعترف بالصداقة والعيش والملح، أصدر الرئيس السادات قرارًا باعتقال محمد عبدالقدوس، نجل صديقه إحسان عبدالقدوس، بسبب انتمائه "للإخوان المسلمين" وحسب كلام إحسان مع الصحفي محمود فوزي "كنت أعلم أن مكالمة تليفون واحدة مني للسادات كفيلة بالإفراج عن أبني، ولكني رفضت احتراما لكبريائي، كنت أعلم أنه ينتظر مني هذه المكالمة، وأذكر في اجتماع كان يخطب فيه السادات وكنت مدعوا فيه بحكم منصبي كرئيس تحرير، ورفضت أن أجلس في مكاني في مواجهته حتى لا يدور بيننا حوار في هذا الموضوع، ولكن السادات تعمد بعد انتهائه من خطبته أن يلاحقني من الباب الخلفي حتى نلتقي وجها لوجه، وأول كلمة فوجئت به يقولها لي: "محمد طالع ثوري زي أبوه يا إحسان" أجبته وأنا أضحك: "وليه مش زي عمه؟! مش انت عمه برضه؟!" وتركته يتكلم دون أن أمنحه رغبته أن يسمعني أرجوه في الإفراج عن ابني. كنت أحاول أن أبدو متماسكا أمام زوجتي، مدافعًا عن اختيارات ابني السياسية، حتى لو كانت متعارضة مع قناعاتي وتوجهاتي، ورغم هذا، الأبوة كانت تهزمني في حجرتي خلف الأبواب أبكي على ابني الموجود في معتقلات صديقي السادات. إذا كانت هذه حكاية إحسان مع السادات، ما حدث بينه وبين الرئيس عبدالناصر يدعو للتأمل ويعطي دروسًا مباشرة في تحديد مستوى العلاقة بين الصحفي والرئيس حتى لو كان الرئيس هو صديق الأمس الذي كان يذهب يوميا إلى الصحفي النجم إحسان عبدالقدوس في مكتبه يجلس بجواره، ويستمع لنصائحه في الثورية والوطنية، أو يمنحه كتبًا من مكتبته الخاصة للقراءة وتثقيف الذات. ورغم هذا تم اعتقاله في بداية الثورة مرتين، ومن المفارقات المضحكة والمبكية في نفس الوقت أن في المرة الأولى خرج من السجن إلى منزل جمال عبدالناصر مدعوًا على العشاء، وهنا أترك الأستاذ إحسان يروي تفاصيل اللقاء بنفسه.. يقول: "حين خرجت من السجن دعاني عبدالناصر إلى زيارته في منزله وأثناء دخولي حجرة السفرة للعشاء قال لي على باب الحجرة قبل الدخول، اتفضل يا إحسان فقلت له: العفو يافندم اتفضل سيادتك فنظر إلى عبدالناصر مندهشا، قبل السجن كنت أناديه يا "جيمي" وقال ناصر: جرى إيه يا إحسان؟! إنت اتغيرت نفسيا قلت له: جرى لي كثير قوي! ومن يومها ظل يدعوني للعشاء في بيته ثم نشاهد أفلاما سينمائية، كانت تعرض في ملعب التنس في منزله من أجل أن أنسى ما حدث، لكن لم أستطع أن أعود لطبيعتي معه، أحسست أن عبدالناصر حاكم وليس مجرد صديق، يوم دخولي الزنزانة فقدت الإحساس بالصداقة بيني وبين عبدالناصر". سيبك بقى من كل ده، إحسان رئيس التحرير.. نموذج ولا في الخيال. في عز أيام صداقته مع محمد عبدالوهاب.. وسهراته معه يوميًا سمح للصحفي محمد تبارك بالهجوم الأسبوعي على "عبدالوهاب" واتهامه بالسرقات الفنية، لم يعاتبه أنه يهاجم صديقه.. ولم يمنع نشر موضوعاته توددًا عند موسيقار الأجيال، لم يفتح حوارا مع محرره، إلا بعد أن توقف عن نشر هجومه على "عبدالوهاب" مستفسرًا منه عن سر التوقف، رد عليه أستاذ تبارك: لم يعد عندي جديد أكتبه، رد إحسان: الجديد هو أن تسمع رأي الرجل الذي اتهمته بالسرقه، أن تمنحه فرصة الدفاع عن نفسه، وقام بتحديد موعد مع "عبدالوهاب" بنفسه. وذهب تبارك إلى "عبدالوهاب" في بيته.. ولم يعد، أصبح صديقًا ل محمد عبدالوهاب حتى آخر يوم في حياته، لا يمر يوم إلا وبينهما مكالمة تليفونية.