تنشر “,”البوابة نيوز“,” آخر قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش “,”عاشق فلسطين“,” في الذكرى الخامسة لرحيله. مَنْ أَنا لأقول لكمْ ما أَقول لكمْ؟ وأَنا لم أكُنْ حجرًا صَقَلَتْهُ المياهُ فأصبح وجهًا ولا قَصَبًا ثقَبتْهُ الرياحُ فأصبح نايًا ... أَنا لاعب النَرْدِ، أَربح حينًا وأَخسر حينًا أَنا مثلكمْ أَو أَقلُّ قليلاً ... وُلدتُ إلى جانب البئرِ والشجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالراهباتْ وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً وانتميتُ إلى عائلةْ مصادفَةً، ووَرِثْتُ ملامحها والصفاتْ وأَمراضها : أَولاً - خَلَلاً في شرايينها وضغطَ دمٍ مرتفعْ ثانيًا - خجلاً في مخاطبة الأمِّ والأَبِ والجدَّة - الشجرةْ ثالثًا - أَملاً في الشفاء من الانفلونزا بفنجان بابونج ساخن رابعًا - كسلاً في الحديث عن الظبي والقُبَّرة خامسًا - مللاً في ليالي الشتاءْ سادسًا - فشلاً فادحًا في الغناءْ ... ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ كانت مصادفةً أَن أكونْ ذَكَرًا ... ومصادفةً أَن أَرى قمرًا شاحبًا مثل ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات ولم أَجتهد كي أَجدْ شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً ! كان يمكن ألا أكونْ كان يمكن ألا يكون أَبي قد تزوَّج أُمي مصادفةً أَو أكونْ مثل أُختي التي صرخت ثم ماتت ولم تنتبه إلي أَنها وُلدت ساعةً واحدةْ ولم تعرف الوالدة ْ ... أَو: كَبَيْض حَمَامٍ تكسَّرَ قبل انبلاج فِراخ الحمام من الكِلْسِ كانت مصادفة أَن أكون أنا الحيّ في حادث الباصِ حيث تأخَّرْتُ عن رحلتي المدرسيّة ْ لأني نسيتُ الوجود وأَحواله عندما كنت أَقرأ في الليل قصَّةَ حُبٍّ تَقمَّصْتُ دور المؤلف فيها ودورَ الحبيب - الضحيَّة ْ فكنتُ شهيد الهوي في الروايةِ والحيَّ في حادث السيرِ لا دور لي في المزاح مع البحرِ لكنني وَلَدٌ طائشٌ من هُواة التسكّع في جاذبيّة ماءٍ ينادي: تعال إليّْ ! ولا دور لي في النجاة من البحرِ أَنْقَذَني نورسٌ آدميٌّ رأي الموج يصطادني ويشلُّ يديّْ كان يمكن أَلاَّ أكون مُصابًا بجنِّ المُعَلَّقة الجاهليّةِ لو أَن بوَّابة الدار كانت شماليّةً لا تطلُّ على البحرِ لو أَن دوريّةَ الجيش لم تر نار القرى تخبز الليلَ لو أَن خمسة عشر شهيدًا أَعادوا بناء المتاريسِ لو أَن ذاك المكان الزراعيَّ لم ينكسرْ رُبَّما صرتُ زيتونةً أو مُعَلِّم جغرافيا أو خبيرًا بمملكة النمل أو حارسًا للصدى ! مَنْ أنا لأقول لكم ما أقول لكم عند باب الكنيسةْ ولستُ سوى رمية النرد ما بين مُفْتَرِس ٍ وفريسةْ ربحت مزيدًا من الصحو لا لأكون سعيدًا بليلتيَ المقمرةْ بل لكي أَشهد المجزرةْ نجوتُ مصادفةً: كُنْتُ أَصغرَ من هَدَف عسكريّ وأكبرَ من نحلة تتنقل بين زهور السياجْ وخفتُ كثيرًا على إخوتي وأَبي وخفتُ على زَمَن ٍ من زجاجْ وخفتُ على قطتي وعلى أَرنبي وعلى قمر ساحر فوق مئذنة المسجد العاليةْ وخفت على عِنَبِ الداليةْ يتدلّى كأثداء كلبتنا ... ومشى الخوفُ بي ومشيت بهِ حافيًا، ناسيًا ذكرياتي الصغيرة عما أُريدُ من الغد - لا وقت للغد - أَمشي / أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ / أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أُسرعُ / أُبطئ / أهوي / أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أرى / لا أرى / أتعثَّرُ / أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ / أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسى / أرى / لا أرى / أتذكَّرُ / أَسمعُ / أُبصرُ / أهذي / أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أُجنّ / أَضلّ / أقلُّ / وأكثرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أُدْمَي / ويغمي عليّ / ومن حسن حظّيَ أن الذئاب اختفت من هناك مُصَادفةً، أو هروبًا من الجيش ِ .. ... ويقول: مَنْ أنا؟ كان يمكن أن لا يحالفني الوحيُ والوحي حظُّ الوحيدين إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ على رُقْعَةٍ من ظلامْ تشعُّ، وقد لا تشعُّ فيهوى الكلامْ كريش على الرملِ لا دَوْرَ لي في القصيدة غيرُ امتثالي لإيقاعها حركاتِ الأحاسيس حسّ يعدِّل حسًا وحَدْس يُنَزِّلُ معنى وغيبوبة في صدى الكلمات وصورة نفسي التي انتقلت من أَنايَ إلى غيرها واعتمادي على نَفَسِي وحنيني إلى النبعِ لا دور لي في القصيدة إلاَّ إذا انقطع الوحيُ والوحيُ حظُّ المهارة إذ تجتهدْ كان يمكن ألاَّ أُحبّ الفتاة التي سألتني: كمِ الساعةُ الآن؟ لو لم أَكن في طريقي إلى السينما كان يمكن ألاَّ تكون خلاسيّةً مثلما هي، أو خاطرًا غامقًا مبهمًا هكذا تولد الكلماتُ . أُدرِّبُ قلبي على الحب كي يَسَعَ الورد والشوكَ صوفيَّةٌ مفرداتي. وحسِّيَّةٌ رغباتي ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ إذا التقتِ الاثنتان : أَنا، وأَنا الأنثويَّةُ يا حُبّ! ما أَنت؟ كم أنتَ أنتَ ولا أنتَ . يا حبّ! هُبَّ علينا عواصفَ رعديّةً كي نصير إلى ما تحبّ لنا من حلول السماويِّ في الجسديّ . وذُبْ في مصبّ يفيض من الجانبين . فأنت - وإن كنت تظهر أَو تَتَبطَّنُ - لا شكل لك ونحن نحبك حين نحبُّ مصادفةً أَنت حظّ المساكين / من سوء حظّيَ أَني نجوت مراراً من الموت حبّاً ومن حُسْن حظّي أنيَ ما زلت هشاً لأدخل في التجربةْ ! يقول المحبُّ المجرِّبُ في سرِّه : هو الحبُّ كذبتنا الصادقةْ فتسمعه العاشقةْ وتقول : هو الحبّ، يأتي ويذهبُ كالبرق والصاعقة للحياة أقول : على مهلك، انتظرينى إلى أن تجفُّ الثُمَالَةُ في قَدَحي ... في الحديقة وردٌ مشاع، ولا يستطيع الهواءُ الفكاكَ من الوردةِ / انتظريني لئلاَّ تفرَّ العنادلُ مِنِّي فاُخطئ في اللحنِ / في الساحة المنشدون يَشُدُّون أوتار آلاتهمْ لنشيد الوداع . على مَهْلِكِ اختصريني لئلاَّ يطول النشيد، فينقطع النبرُ بين المطالع، وَهْيَ ثنائيَّةٌ والختامِ الأُحاديّ : تحيا الحياة !