أولُ عمل ٍ إبداعيّ للكاتب ِ مُمغنط ٌ بذبذبات ِ الحيرة ِ والقلق ِ والخوف ، إنّهُ يُشبه ُ تماما ً المولودَ البكرَ المنتظرَ لامرأة ٍ حالمة ٍ ، رتّبت سرير َ حياتها علي الحُبّ والأمل ِ والدفء ِ ، ليُزين َ هذا المولود ُ الملائكيّ أحلامها في التواصل والاستمرار ِ وضمان ِ تفاحة َ المستقبل ِالتي تنضج ُ علي ضوء ِ الثقة ِ والصّبر ِ والأمل ..، مولود ٌ يُمكنُ أنْ يُستقبل َ بالدمع ِ والابتسامة .. وبالخوف ِ والاطمئنان ِ معا ً ..!! أولُ عمل ٍ إبداعيّ مرعبٌ.. ومُقلقٌ .. وماهرٌ في سرقة ِ أجمل لحظات الكاتب ِ .. وعناقيد نومه ِ ، هذه ِ حقيقة يعرفها المبدعُ المحترق ُ وحده ..، فأمّا أنْ يُحييه ويزرعَ قدمَه ُ المرتبكة في تربة ٍ من ذهب ٍ وريحان ٍ وعسل ..، وأمّا أنْ يحرّضَ عليهِ كلّ عناكب اليأس والإحباط ليجدَ جسدَه طعاما ً سائغا ً لها ،وتصبح لحظات ُ حماسه ِ وتوهجه فريسة ً للظلمة ِ والرطوبة ِ والأحزان !! . رُبما تكونُ بداية ُ الكثير من المبدعين متواضعة ً..!! أيْ أنّ العمل الأول ليسَ مقياسا ً لتألق ِ وشهرة ِواستمرار ِ الكاتب ِ ، ولكنه ُ نقطة ُ الضوء الأولي والتي ينبغي أنْ تتفوق َ علي جحافل الظلام ..، هو لحظة ُ الصراع بينَ الظلمة ِ والنور ِ ، بينَ النجاح ِ والفشل ِ ، بينَ الأمل ِ واليأس ِ ..، فإذا كانت البداية ُ صادقة ً .. حقيقية ً .. مُثقلة ً بالأسئلة ِ ، كانَ الكاتبُ المبدعُ صاحبَ مشروع ، .. تمكنَ من الفوز ِ ، والنجاح ِ والاستمرار ، وفي هذه ِ الحالة ِ تعلنُ الظلمة ُ عن اندحارها وهزيمتها ، وتعترف بعجزها عن قراءة ِ النور ..، الزاهي أبدا ً بلغته ِ التي هيَ لغة ُ الكون ِ ، والحياة ،ِ والحُبّ ِ والخلود !! . كتابي الأول ( تساؤلات علي خارطة ٍ لا تسقط ُ فيها الأمطار ).. رُبما لمْ يُصدقني قرّاء ُهذا العمل الإبداعي الذي رأي النور في طرابلس ذ ليبيا ، أول كتاب في سلسلة- كتاب الشعب1979 منشورات الدار الجماهيرية .. إنّهُ قصائدي الأولي التي يُقرأ من خلالها الوطنُ امرأة ً، والمرأة ُ وطنا ً .. قصائد منفلتة .. سريعة كالرصاصة ، وموجعة كالطعنة ، وبسيطة كرغيف الخبز ، وصادقة في صخبها كأحزان ِ أمّي ..، قالَ لي أحدُ النقاد أنني بدأت ُ بداية ً قوية ً.. لا تصدقوا إذا قلتُ لكم إنني لمْ أمزق قبل هذا الكتاب أيّ قصيدة ..، ولمْ أحذف منه كلمة ً ، ولمْ استبدلْ سطرا ً بسطر ٍ ، ولمْ أتعلمْ بعدُ حيل َ الكتابة ِ ، وتمزيق الورق ِ ، ومراوغة الكلمات واللعب بمجازاتها كما تلعب ُ بوقتي ..، ولمْ أفهم كثيرا ً في سحر ِ الحروف وفسفورها ..، وضعته ُ كما أمرتني القصيدة .. أعطيت ُ للكلمات ِ حُرية َ المبادرة كما أوصي الشاعر الفرنسي مالارميه .. وضعته ُ علي ورق ٍ قلِق ٍ.. وبحروف ٍ متحمسة ٍ .. وكلمات ٍ طائشة ٍ نزقة ٍ .. وحالة ٍ شعرية ٍ مُلحة ٍ !! أذكرُ أنني كنتُ مذبوحا ً عشقا ً .. وشوقا ً .. وحنينا ً .. وشعرا ً ، لمْ أصدّق أنّ هذا الديوان الصغير سيُؤرّخ لولادتي العسيرة .. ومعاناتي الكبيرة.. وجراحاتي الكونية .. وفوضاي.. وأحزاني بلا مثيل .. ونزيفي الذي لمْ يتوقفْ منذ ُ ذلك َ التاريخ، حتي عندما صدرَ استقبلته ُ بهدوء ٍ .. وفتورٍ .. وخوف ٍ .. ورُعبٍ رُغم فرح الشاعر الراحل جيلاني طريبشان ذأقرب الأصدقاء به ِ، وهو يبعث ُ لي عشر نسخ ٍ بالبريد ، حيث مكان عملي وإقامتي في مدينة ذ غات أقصي الجنوب الليبي..، لمْ أفرح بعملي الأول كثيرا ً ، ولمْ أعانقه ُ كما يليق باللقاء الأول للحبيب ..، رُبما لمْ أكنْ مطمئنا ً لبدايتي هذه ِ إلا ّ بعد أنْ التقيت الصديق المبدع والروائي الكبير د. أحمد إبراهيم الفقيه الذي عبّر َلي عن إعجابه بكتابي ، وأنّه هو الذي فجّرَ في طريقه ِ أنهار الضوء ..، هو الذي أجازهُ ،ليمنحهُ الجسارة َ والركض إلي القراء بقدمي الشمس ، والصباح ، والندي ، والمطر ..، مبشرا ً بوجهي ، وملامحي ، وأحلامي ، وقدْ نفد هذا الكتاب في فترة ٍ قصيرة . وحينَ أثني عليه العديد من الكتاب والنقاد الليبيين والعرب من خلال ما كتبوا عنه ، أحسّست ُ أنني في ورطة ٍ..، بلْ في بلية ٍ ، تذكرتُ العبقري ذ مكسيم غوركي وهو يقول : ( إذا أصبحت ِ الكتابة ُ بليتك الكبري ، فلنْ ينقذك منها سوي الموت) .. !! . إنّها البداية ُ- الصعبة ُ.. والرحلة ُ- الشاقة العذبة !! كما تداهمك َ امرأة ٌ تداهمك َ الكتابة ُ ، ومثلما يسكنُ الوطنُ خاصرتك .. تمتلك ُ الكتابة ُ كيانك الكتابة جنونٌ .. مرض ٌ لا شفاء منه ُ إلا ّ بالصلاة الدائمة في محراب الكلمات ، ولهذا استغرب لمنْ يقول أنّه سيعتزل الكتابة ، أوْ يعلن براءته من شياطينها الطيبين !! لا أعرفُ متي ؟ وكيفَ بدأت ؟ فقط أذكرُ أنني بكيت ُ من شدة ِ العشق ِ .. ومن طعنة الشوق والحنين !! أعترف ُ أنني لمْ أكتبْ قصائد َ هذا الديوان.. كانت القصيدة ُ تكتبني .. تتوضأ بدمعي .. ودمي .. ووقتي .. ولحظات حنيني .. وشوقي إلي بلدي .. وأمّي .. وبيتي .. وطفولتي التي لمْ أعشها.. لا فضل لي في أيّ حرف ٍ فيه ، كلّ الفضل لقريحتي .. وأصابعي التي كانت تقدح ُ نارا ً .. وربيعا ً معا ً ، .. كانَ جسدي كُلّه ُ يكتب ُ شيئا ً يُشبه ُ الجنون والعشق ، بلْ هو الجنون والعشق نفسه ، ..لمْ أتدخلْ في أيّ كلمة .. ولمْ أضطهدْ أيّ حرف ٍ أوْ أقسو عليه..، ولمْ استعمر جملة ً رشيقة ً فيه..، كنتُ أنا العبد المطيع الخاشع في مملكة ِ الكلمات ..كنتُ فقط أنظرُ إلي أصابعي ، وهي تتحرك ، تنبض ُ بهمومي .. وخارطة غزواتي .. ، تخلد ُ رعشتها .. وجنونها .. وفوضاها الجميلة الضرورية ، أذكرُ رقصة َ جسدي الملائكية ، حين َ ألقيت آخر نظرة علي مدينتي، ولمْ آبه لدموع ِ أمّي التي لمْ أرها منذ ُ أكثر من ثلاثين َ عاما ً .. حين َ تركت ُ بلدي فارّا ً من القهر .. والفقر .. والطغيان .. والتهم الجاهزة..والعلاقات النفعية راكباً سفينة الشعر والكتابة بلا ميناء ..، كنتُ أحلم ُ بلْ أتمني الخراب الضروري قبلَ أنْ أقرأ ََ ( رامبو ) و( سان جون بيرس ) و ( نيرودا )و(وأكتفيوباث) وأتلذّذ ُ بخرابهم الجميل .. كانَ لي حلميَ الخاصُ .. وخرابي الذي أعلنتْْ دولته ُ الكلماتُ.. وأيّد َ سلطتّه ُ الإلهامُ.. وقدْ شكلت حكومته علي أوراق ديواني وعملي الأول : ( تساؤلات علي خارطة لا تسقط فيها الأمطار ).. اعترافي الأول بأنني مُزعج ٌ .. ومُقلِق ٌ.. عسير الرضا .. جسورٌ .. وفاتح مدن ٍ بلا أسماء ..وعاشق ٌ حتّي الموت !! . أول الكتابة ِ .. أولُ الخراب!!بداية ُ النزيف .. وخلاصة ُ حبّ ٍِ ما يزال ُ يجدّد الحياة َ والنبض في شراييني.. وكلّ دقيقة ٍ في جسدي !! حينَ صقلتُ قريحتي بإكسير ِ عذابي واخترت ُ الكلمات ِ مُتنفسي .. ونافذتي التي تظلُ أبدا ً في ظمأ ٍ للطير .. والربيع ِ .. والمطر ِ ، وقتها كنت ُ غريبا ً .. منكسرا ً .. ووحيدا ً إلا من جراحاتي.. وذكرياتي .. وملامح بلدي الشاحبة ، لا خطوات لي تأمر الصباح بزيارتي .. أوْ تكلف الربيع بنسج قميص ِ الدفءِ لي.. وترغم الشمسَ علي الدخول إلي غرف ِ روحي المظلمةِ الرطبةِ.. ودهاليز جسدي الناحلِ..، فقط دُعاء بلا أبجدية ..وأمل نحيل كما سمّاه الصديق الراحل الكبير البياتي في واحدة ٍ من رسائله الحميمة لي .. فقط كلمات تزهو بحبر الجسد ِ ، وإيقاع المعاناة .. كلمات هيَ كلّ ثروتي ، بلْ كلّ ما أملكُ ..، بعد َ أنْ تركتُ كنز َ طفولتي .. وعلاقاتي .. وذكرياتي .. ورسائل أحبتي أمانة ً في قلب ِ الفرات ذ إله الصبر والمعذبين ، وأعرفُ انّه لنْ يخونَ الأمانة َ، ولكنّ الوقت قدْ َخانه ُ وخذله ُ، وبدلا ً من أنْ يُرتّب َ أحلامنا ..ولحظات عشقنا ، صار َ مثقلا ً بسُعال الغرباء .. والجرحي ..والموتي .. واليتامي ..والأرامل .. والوقت المراوغ الخؤون !! . ( تساؤلات علي خارطة لا تسقط ٌُ فيها الأمطار ) .. أولُ الكتابة ِ !! أولُ النزف ِ .. أولُ العشق ِ .. وأولُ الخراب !!