( القانون هو القيود الحكيمة التى تجعل الناس أحراراً ) قول مأثور
هل الحرية المطلقة للتعبير تؤدى إلى ديكتاتورية وسائل الإعلام ؟؟ أوضحنا فى المقال السابق أن « رمزية » التعبير الإنسانى هى التى تجعله « مطلق » الحرية ، وحريته المطلقة هى التى تكسبه « التعدد والتنوع » ، وتعدده وتنوعه هما اللذان يضمنان « إيجابية تأثيره ». ولكن أنصار الوصاية على حرية التعبير ؛ ينظرون إلى الحرية المطلقة للتعبير باعتبارها خطر داهم على المجتمع يؤدى إلى ديكتاتورية وسائل الاعلام ؛ وخلق حالة من الانفلات الإعلامى المدمر للمجتمع بسلطاته وأفراده . وفى الواقع فإن الحرية المطلقة للتعبير ليست مجرد دعوة طوباوية يتطلع إليها بعض المثاليين المؤمنين بحرية الإنسان إلى أبعد مدى ؛ وإنما هى بالفعل واقع معاش تؤكده بعض التجارب الدستورية المرموقة والناجحة ؛ وتؤكده التطبيقات التكنولوجية المعاشة التى أفرزت البث التلفزيونى الفضائى المباشر وأفرزت شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى . الأمر الذى أدى إلى تسهيل مهمة المطالبين بكفالة الحرية المطلقة للتعبير ؛ وتصعيب مهمة المصرين على كبتها ومحاصرتها . وعلى مستوى التجربة الدستورية المرموقة والناجحة ؛ يبرز التعديل الأول فى الدستور الأمريكى باعتباره التجربة العملية الرائدة فى العالم لإقرار مبدأ الحرية المطلقة للتعبير . حيث ينص التعديل الأول فى الدستور الأمريكى الذى تم العمل به اعتبارا من عام 1791م على الآتى : " لا يجوز للكونجرس أن يصدر أى قانون ... يحد من حرية التعبير أو الصحافة ... " . " Congress shall make no law abridging the freedom of speech or of the press " ويضع الدستور الأمريكى بهذا القيد الملزم للسلطة التشريعية ؛ النموذج الدستورى الأمثل لضمان الحرية المطلقة للتعبير ؛ بحيث يمتنع على السلطة التشريعية إصدار أية تشريعات تحد من حرية التعبير . وإن حدث وتورطت السلطة التشريعية فى ذلك ؛ فإن مآل ذلك التشريع يكون الإلغاء أمام " المحكمة العليا " لمخالفته للتعديل الدستورى الأول . وهذا الضمان الدستورى لعدم تقييد الحق فى حرية التعبير أو الصحافة بتدخلات تشريعية مسبقة ؛ لا يمنع الأفراد أو السلطات من الادعاء أمام المحاكم ضد ما يعتقدون إنه إساءة لاستخدام هذا الحق . ولكنه يضع على كاهل السلطات المتضررة أو أى متضرر آخر عبء إثبات الضرر الناتج عن ممارسة الحق فى حرية التعبير والصحافة ؛ ولا يضع هذا العبء على كاهل الشخص أو الجهة التى مارست ذلك الحق . الأمر الذى يوضح أن الدستور الأمريكى يتعامل مع حرية التعبير باعتبارها حق من الحقوق الطبيعية التى يولد بها الإنسان ؛ ولا يتم منحها له من أى سلطة مهما كانت ؛ ومن ثم فهى حقوق غير قابلة للتقييد أو الالغاء . وتوضح " نظرية الحقوق والحريات العامة " الفروق الحاسمة بين مفهوم الحقوق ومفهوم الحريات العامة . حيث يعنى مفهوم الحقوق أن ” للإنسان حقوق أساسية يستمدها من طبيعته البشرية ؛ وبذلك فهى تفرض نفسها على قوانين الدولة لأنها تستند إلى شرعية أعلى ؛ ولا حاجة لها باعتراف أو تكريس من قبل القانون الوضعى . بينما يشير مفهوم الحريات العامة إلى مجموعة الحقوق التى تكفلها وتعترف بها السلطة العمومية وهى بذلك تندرج فى دائرة القانون الوضعى“ ( انظر : عبد الكريم جيزاوى : حق الاتصال وارتباطه بمفهوم الحرية والديموقراطية ؛ فى راسم الجمال وآخرين , ص 96 ) . وهذا يؤكد بأن الحق فى حرية التعبير باعتباره حق من الحقوق الطبيعية للإنسان لا يجوز تقييده بأى تشريع ؛ بما يغل يد السلطة التشريعية عن محاصرة أو تقييد أى ممارسة من ممارسات هذا الحق بقيد تشريعى مسبق . وإنما ينعقد الأمر حصراً للسلطة القضائية لكى تفصل فى المنازعات المتعلقة بإساءة ممارسة هذا الحق ؛ بحيث لا يجوز لها تجريم هذه الممارسة إلا لو فقد التعبير الإنسانى طابعه الرمزى وأسفر عن آثار مادية أو أدبية ضارة بالأشخاص أو الممتلكات أو البيئة الطبيعية . وفى الواقع فإن استئصال أى تشريعات مسبقة مقيدة لحرية التعبير فى أى مجتمع ؛ لا يؤدى إلى خلق حالة من الفراغ التشريعى التى تقود إلى ديكتاتورية وسائل الإعلام وتدميرها لهذا المجتمع . والدليل ؛ أن 221 عاماً هى عمر التعديل الأول فى الدستور الأمريكى لم تؤدِ إلى ذلك . حيث تظل " النصوص العامة فى القانون العام " كافية وحدها ومستوفية لمواجهة أى حالات تتضمن إساءة لاستخدام الحق فى حرية التعبير ؛ وذلك دون أن تحتوى تلك النصوص العامة على أى عبارة تشير من قريب أو من بعيد الى تقييد حق الناس فى الكلام والمعرفة بصورة مسبقة ؛ الأمر الذى يحتفظ للقضاء بقدرته على مواجهة أى آثار ضارة ناشئة عن إساءة ممارسة أى إنسان أو جهة للحق فى حرية التعبير . ولنضرب الأمثلة على ذلك ؛ من واقع نصوص القانون المصرى العام التى تتضمن 3 مواد عامة تكفى تماما لكى يتصدى القضاء لمواجهة أى إساءة لاستخدام الحق فى حرية التعبير ؛ دون الحاجة إلى عشرات المواد الخاصة الأخرى داخل القانون العام ذاته ؛ أو داخل القوانين الخاصة . مثال ذلك ؛ ما تنص عليه المادة رقم (50) من القانون المدنى المصرى من أن : " لكل من وقع عليه اعتداء غير مشروع فى حق من الحقوق الملازمة لشخصيته ، أن يطلب وقف هذا الاعتداء مع التعويض عما يكون قد لحقه من ضرر ". وما تنص عليه المادة رقم (163) من القانون المدنى من أن : " كل خطأ سبب ضرراً للغير يُلزم من ارتكبه بالتعويض ". وما تنص عليه المادة رقم (40) من قانون العقوبات من أنه : " يُعد شريكاً فى الجريمة ( أولاً ) كل من حرض على ارتكاب الفعل المكون للجريمة إذا كان هذا الفعل قد وقع بناء على هذا التحريض ". وتوفر هذه المواد الثلاث حماية متكاملة لأى متضرر من إساءة استخدام أى شخص أو جهة للحق فى حرية التعبير . فالمادة رقم 50 من القانون المدنى ؛ تكفل الحماية من أى اعتداء على أى حق من الحقوق الملازمة لشخصية الإنسان . فالترويع بالقتل أو التحريض عليه أو تعمد نشر معلومات غير صحيحة أو التحقير الموجه ضد طائفة أو ديانة .. إلخ ؛ كل ذلك يمثل اعتداء على حق الانسان فى الأمن والحياة والكرامة الإنسانية والاعتقاد ؛ وللمتضرر حق اللجوء للقضاء ليفصل فى مدى جدية هذا التهديد ؛ وإلزام مرتكبه بالتراجع عن هذا الاعتداء ؛ والتعهد بعدم التعرض والتعويض عن الأضرار . والمادة رقم 163 من القانون المدنى ؛ تكفل الحماية من الخطأ وليس التعمد الناشئ عن إساءة ممارسة الحق فى حرية التعبير ؛ وبالتالى فإن نشر معلومات خاطئة دون تعمد هو أمر يمكن إدراجه ضمن نطاق هذه المادة ؛ بما يعطى القضاء الحق فى تعويض المتضرر . أما المادة رقم 40 من قانون العقوبات ؛ فإنها تواجه التحريض الذى تحقق أثره ؛ وتعتبر المحرض شريكاً فى الجريمة التى حرض عليها . وكما هو واضح ؛ فإن المواد الثلاث توفر حماية متكاملة ضد إساءة ممارسة الحق فى حرية التعبير ؛ انطلاقا من أن التعبير الإنسانى فى هذه الحالة يفقد إطاره وطابعه الرمزى نظرا لما نتج عنه من آثار مادية أو أدبية ضارة بالأشخاص أو الممتلكات أو البيئة الطبيعية ؛ ومن ثم تسقط عن التعبير الإنسانى فى هذه الحالة حريته المطلقة ؛ لارتباطه بآثار مادية ضارة على أرض الواقع . إذن نحن أمام نصوص قانونية عامة واضحة لا لبس فيها ؛ تنبع من نصوص القانون العام ؛ ولا يوجد بها كلمة واحدة تتعرض بالتقييد للحق فى حرية التعبير . الأمر الذى يوضح بأن الترسانة التشريعية سيئة السمعة للقوانين المقيدة لحرية التعبير التى تزخر بها الغابة التشريعية المصرية ؛ ما هى إلا نصوص تشير إلى حجم الكراهية التى يضمرها البعض لحرية الانسان فى الكلام والتفكير وحقه فى حرية المعلومات والمعرفة . ومن ثم ؛ لا يجوز للسلطة التشريعية فى أى مجتمع ديموقراطى ؛ أن تصدر أى قوانين مسبقة تتولى استبعاد أى طائفة من التعبيرات الإنسانية من حيز التداول الإعلامى ومن حيز العلانية ؛ لمجرد احتمالية إنتاجها لآثار ضارة ؛ وإنما يتم ترك الأمر للقضاء ليقدر كل حالة وفقا لسياقها وفى ضوء النصوص العامة فى القانون العام . وبذلك ؛ فإن الدعوى إلى الحرية المطلقة للتعبير رغم أنها تعنى عملياً إلغاء كافة القوانين المقيدة لحرية التعبير ؛ إلا أنها لا تؤدى إلى إفلات الإعلاميين أو القائمين بالاتصال من المثول أمام القضاء ؛ لمساءلتهم عن الأضرار الأدبية أو المادية التى ألحقوها بالآخرين نتيجة إساءة ممارسة الحق فى حرية التعبير ؛ وذلك بموجب النصوص العامة بالقانون العام السائدة فى كل النظم القانونية على مستوى العالم ؛ وليس بموجب مجموعة من القوانين الخاصة الكريهة التى تضع قيوداً مسبقة على هذا الحق . ولكن الإشكالية التى تطل بوجهها فى هذا الأمر ؛ تتمثل فى أن الفكر السائد لدى أغلب الاعلاميين أنفسهم أو لدى العامة من الناس ؛ يميل إلى التعامل مع الحرية المطلقة للتعبير باعتبارها أمر غير مُبرر عملياً ؛ بل وإن تقييد هذه الحرية يكون أوفق وأكثر إفادة للمجتمع ؛ وذلك لوجود مخاطر حقيقية ينبغى مواجهتها بتشريعات مسبقة تحظر نشر طائقة من المعلومات والآراء . ولعل انخفاض سقف المطالبات المزمنة الصادرة من الحقوقيين والإعلاميين ؛ بما يجعل هذا السقف لا يتجاوز إلغاء عقوبة الحبس فى جرائم النشر واستبدالها بالغرامة ؛ هو أمر يوضح وللأسف ؛ بأن البعض لا يجد حرجاً فى وجود تشريعات مسبقة تقيد حرية التعبير ؛ وإنما الخلاف يتمحور فقط حول مدى شدة العقوبة !!!! والواقع أن هذا الفكر السائد هو الهاجس الذى يتولى أنصار الوصاية على حرية التعبير تضخيمه واستغلاله لزرع المخاوف من الحرية المطلقة للتعبير . وذلك رغم أن هذه المخاوف ليس لها أى وجود ؛ ولا تستند إلى أى مبررات منطقية ؛ إذا ما تم مناقشتها باستفاضة ووضعها تحت مجهر البحث والتحليل . وهذا ما سنناقشه فى المقال القادم بإذن الله تعالى .