أسعار الخضراوات اليوم 27 أبريل في سوق العبور    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. السبت 27 أبريل    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف إسرائيلي على النصيرات وسط غزة    إسبانيا تعلن إرسال صواريخ باتريوت ومركبات مدرعة ودبابات "ليوبارد" إلى كييف    كندا تخصص أكثر من مليوني دولار لصناعة المسيرات الأوكرانية    بعد قليل.. الحكم في اتهام مرتضى منصور بسب عمرو أديب    اليوم.. الجنايات تنظر محاكمة متهمي "خليه المرج"    دينا فؤاد: أنا مش تحت أمر المخرج.. ومش هقدر أعمل أكتر مما يخدم الدراما بدون فجاجة    ميار الببلاوي تبكي متأثرة من هجوم أزهري عليها: خاض في عرضي    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    الرئيس العراقي يدين الهجوم على حقل كورمور للغاز ويدعو إلى اتخاذ إجراءات وقائية    استقرار أسعار الذهب في بداية التعاملات يوم السبت 27 أبريل 2024    بعد ارتفاعها.. أسعار الدواجن اليوم 27 أبريل| كرتونة البيض في مأزق    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    "كنت ببعتله تحياتي".. كولر يكشف سر الورقة التي أعطاها ل رامي ربيعة أثناء مباراة مازيمبي    حكم الشرع في الإسراع أثناء أداء الصلاة.. دار الإفتاء تجيب    الجيش الأمريكي: جماعة الحوثي أطلقت صواريخ على سفينتين في البحر الأحمر    4 أيام متواصلة.. تعرف على عطلة شم النسيم وعيد العمال والإجازات الرسمية حتى نهاية 2024    بالطيران المسير.. المقاومة الإسلامية في العراق تضرب هدفا حيويا في إسرائيل    للحماية من حرارة الصيف.. 5 نصائح مهمة من وزارة الصحة    تحذير دولي من خطورة الإصابة بالملاريا.. بلغت أعلى مستوياتها    د. محمد كمال الجيزاوى يكتب: الطلاب الوافدون وأبناؤنا فى الخارج    "اتهاجمت أكثر مما أخفى الكرات ضد الزمالك".. خالد بيبو يرد على الانتقادات    د. هشام عبدالحكم يكتب: جامعة وصحة ومحليات    نتيجة انتخابات نادي القضاة بالمنيا.. عبد الجابر رئيسًا    «المركزية الأمريكية»: الحوثيون أطلقوا 3 صواريخ باليستية على سفينتين في البحر الأحمر    لدورة جديدة.. فوز الدكتور أحمد فاضل نقيبًا لأطباء الأسنان بكفر الشيخ    قبل مواجهة دريمز.. إداراة الزمالك تطمئن على اللاعبين في غانا    3 وظائف شاغرة.. القومي للمرأة يعلن عن فرص عمل جديدة    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    والد ضحية شبرا يروي تفاصيل مرعبة عن الج ريمة البشعة    بعد حادث طفل شبرا الخيمة.. ما الفرق بين الدارك ويب والديب ويب؟    2.4 مليار دولار.. صندوق النقد الدولي: شرائح قرض مصر في هذه المواعيد    أستاذ علاقات دولية: الجهد المصري خلق مساحة مشتركة بين حماس وإسرائيل.. فيديو    دينا فؤاد: الفنان نور الشريف تابعني كمذيعة على "الحرة" وقال "وشها حلو"    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    حضور جماهيري كامل العدد فى أولي أيام مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير .. صور    حدث بالفن|شريهان تعتذر لبدرية طلبة وفنان يتخلى عن تشجيع النادي الأهلي لهذا السبب    محمد هلب: السيارات الكهربائية بمثابة مشروع قومى لمصر    شعبة البن تفجر مفاجأة مدوية عن أسعاره المثيرة للجدل    عاد لينتقم، خالد بيبو: أنا جامد يا كابتن سيد واحنا بنكسب في الملعب مش بنخبي كور    وزير الرياضة يُهنئ الأهلي لصعوده لنهائي دوري أبطال أفريقيا للمرة ال17 في تاريخه    تنفع غدا أو عشا .. طريقة عمل كفتة البطاطس    الأمن العام يضبط المتهم بقتل مزارع في أسيوط    تحرير 17 ألف مخالفة مرورية متنوعة على الطرق السريعة خلال 24 ساعة    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    وسام أبو علي يدخل تاريخ الأهلي الأفريقي في ليلة التأهل للنهائي    أرقام مميزة للأهلي بعد تأهله لنهائي دوري أبطال أفريقيا    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    حريق يلتهم شقة بالإسكندرية وإصابة سكانها بحالة اختناق (صور)    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. محمد محفوظ : الحرية المطلقة للتعبير .. وهم أم حقيقة ؟؟ ( 1 / 4 )
نشر في البديل يوم 10 - 09 - 2012

( لأن الحقيقة نسبية ؛ فإن حرية التعبير ينبغي أن تكون مطلقة ؛ فلا أحد يمتلك الحقيقة حتى يصادر حق الآخرين فى محاولة الاقتراب من حدودها ) . دكتور / محمد محفوظ
مأزق الثورة المصرية أن الذى عرقلها العسكر ؛ والذى ركب فوق ظهرها المتأسلمون ؛ وما بين أولئك وهؤلاء ؛ لا مكان بالطبع للإيمان بحرية التعبير . فمؤسسات الأوامر والتعليمات ؛ وجماعات السمع والطاعة ؛ لا تعترف بالخطأ ولا تقبل النقد ولا تتقبل المراجعة . وحرية الإنسان فى التعبير بالنسبة إليها ما هى إلا دعوة إلى التمرد والعصيان ؛ أومؤامرة للخروج على ولى الأمر والسلطان .
ومع اقتراب موعد إعلان الجمعية التأسيسية عن مشروع الدستور ؛ وما يترافق مع ذلك من ممارسات متتالية ممنهجة للتضييق على حرية الصحف والفضائيات وحرية الإبداع ؛ يبدو الحيز الذى سيتاح لحرية التعبير فى مواد الدستور ؛ حيزاً محكوماً بتوجهات المتأسلمين الفكرية التى ترى أن حرية الإنسان فى التعبير ينبغى أن تظل داخل حدود " الصندوق " الذى يتضمن تفسيرهم الخاص المتشدد الضيق للحلال والحرام . ومحكوماً أيضاً بقناعات الإعلاميين والمبدعين أنفسهم الناتجة عن بيئة حكم استبدادية وبنية مجتمع تقليدية ؛ بما يقيد خطواتهم فى التقدم نحو تحطيم هذا " الصندوق " ؛ ويحصرها فقط فى التطلع لتوسيع حدوده ورفع سقفه وإكساب جدرانه المزيد من المرونة .
وفى ظل هذا المناخ المعادى لحرية التعبير أو المتوجس منها أو المتحرج من آثارها ؛ تبدو الحاجة إلى اجترار البديهيات فريضة ثورية ؛ كما تبدو الحاجة إلى فهم الأسس والقواعد ضرورة مجتمعية ؛ تفرضها الرغبة الحثيثة فى وضع هذا الشعب على خط البداية ؛ بحيث يبدأ من حيث انتهى المعاصرون ؛ وليس كما يريد له البعض بأن يبدأ من حيث بدأ الأقدمون من عشرات القرون !!
لذلك ؛ أستأذن القارئ فى أن يتحمل الدعوة التى ستتضمنها هذه السلسلة من المقالات ؛ والتى لا تطالب فقط بضمان حرية التعبير ؛ وإنما تتجاوز ذلك لتطالب بضمان الحرية المطلقة للتعبير . وقد يعتقد البعض بأن هذا شطط أو خبل أو مراهقة فكرية ؛ ولكن لا سبيل إلى التأكد من صحة ذلك من عدمه ؛ إلا بعد مقارعة الحجة بالحجة والمنطق بالمنطق ؛ ذلك أن هناك قاعدة فكرية بسيطة جداً اضمحلت فى وعينا المعاصر ؛ تقرر بأنه : لا يمكن الوصول إلى النتائج إلا من خلال المقدمات المنطقية .
يمكن فهم الأسس التى ترتكز عليها الدعوة إلى ضرورة كفالة الحرية المطلقة للتعبير ؛ من خلال دراسة أربعة محددات وهى:
نوع الإطار الذى تنتمى إليه حرية التعبير .
المدى الذى ينبغى أن يمتد إليه هذا الإطار خلال ممارسة حرية التعبير لفاعلياتها .
توصيف المحتوى المعرفى الناشئ عن هذه الممارسة ضمن ذلك الإطار .
دراسة التأثير الناتج عن انتشار هذا المحتوى المعرفى فى المجتمع .
ولعل دراسة تلك المحددات الأربعة ( النوع المدى المحتوى التأثير ) ؛ ستساهم فى توضيح مبررات الطرح الفكرى الذى يدعو إلى ضرورة ضمان الحرية المطلقة للتعبير ؛ وذلك على النحو التالى:
أولاً: نوع الإطار اللازم لحرية التعبير:
تعنى حرية التعبير - فى المعنى العام - المعاكس الموضوعى لحرية الفعل، حيث إن التعبير الإنسانى يتجسد فى الدلالات والرموز، بينما الفعل الإنسانى يتجسد فى الإرادة المادية والأنشطة العملية. فالإطار المميز للتعبير الإنسانى هو إطار رمزى، والإطار المميز للفعل الإنسانى هو إطار عملى مادى . ومن هنا كانت أدوات التعبير الإنسانى هى الحروف والألفاظ والإشارات والرموز والصور والحركات والانفعالات، ويتجلى ذلك فى تعبيرات مكتوبة أو منطوقة أو مرئية. بينما أدوات الفعل الإنسانى هى القوة العضلية فى مجال تأثيرها المادى والآلات والأجهزة والمعدات، ويتجلى ذلك فى السيطرة على والتحكم فى مكونات البيئة الطبيعية من جماد ونبات وحيوان وإنسان.
وبالتالى فإن الإطار الذى يضم التعبير الإنسانى باعتباره يتشكل فى ( عالم الرموز والمعانى ) هو إطار رمزى . بخلاف الإطار الذى يضم الفعل الإنسانى الذى يتشكل فى (عالم الوقائع والأحداث )، ومن ثم فهو إطار مادى.
الأمر الذى يكشف عن أن التعامل مع التعبير الإنسانى يجب أن يتم فى إطار طبيعته الرمزية التى تميزه عن الفعل الإنسانى. بما يعنى أن النصوص القانونية الاستباقية المقيِّدة لمجال حرية الفعل الإنسانى حتى لا تمتد آثاره إلى الآخرين بالضرر، لا تنطبق بالضرورة على مجال حرية التعبير الإنسانى، لكونه مجالاً رمزياً يحتاج إلى نصوص قانونية غير استباقية تصلح للتعامل فقط مع الآثار الضارة التى قد تترتب على بعض ممارسات الحق فى حرية التعبير ؛ وليس مع تلك الممارسات ذاتها .
وانطلاقاً مما سبق، يمكن أن نقرر بكل موضوعية ؛ بأن الإطار اللازم لحرية التعبير هو إطار رمزى من حيث النوع أو التوصيف أو النوعية، وذلك لكونه يتعامل مع الرموز والمعانى ومع الأفكار والدلالات.
ثانياً: مدى الإطار اللازم لحرية التعبير:
تأسيساً على رمزية الإطار الذى يميز التعبير الإنسانى ؛ فإن مدى ذلك التعبير يصبح تبعاً لذلك حراً بطبيعته، لأن الإطار الذى يميزه هو إطار رمزى لا يعرف الحدود المادية
أو الحواجز الواقعية. يُضاف إلى ذلك أن مدى ذلك التعبير الإنسانى يصبح حراً نظراً لوظيفته، ذلك أن مضمون هذا التعبير هو نقل الأفكار؛ والأفكار لا يمكن تبين صحتها من خطأها إلا من خلال مناقشتها، ومناقشتها تستتبع بالضرورة إعلانها حتى يمكن جذب أكبر عدد من المناقشين لهذه الأفكار ، وإعلانها يستتبع بالضرورة كفالة الحرية التامة لذلك الإعلان وذاك النقاش حتى يمكن للمناقشة أن تلم بأطراف وجوهر تلك الأفكار وتحليل كافة جوانبها .. وهكذا.
أما الأفعال - فإنها بخلاف ذلك - لا يمكن إدراكها ومن ثم تبين صحتها من خطأها إلا عند أو بعد وقوعها مادياً ، وحينئذ تظهر فوائدها التى تحققت أو أضرارها.
ولذلك يكتسب التعبير الإنسانى - نظراً لرمزيته - مدى غير محدود لنطاق حريته، بخلاف الفعل الإنسانى الذى يتقيد دائماً بمدى محدد لنطاق حريته نظراً لماديته.
وانطلاقاً من تلك الرؤية، فإن حرية التعبير - نظراً لرمزية إطارها ومداها غير المحدود - ما هى إلا حرية مطلقة غير مقيدة بحدود أو حواجز، حيث إن المدى المطلق هو المدى الوحيد الذى يوفر لها التوافق مع إطارها الرمزى القائم على الرموز والأفكار والمعانى.
وهذا يوضح بأنه بينما يستحيل على الحرية المادية للفرد أن تتقاطع مع حريات الآخرين , لأن هذا التقاطع سيؤدى بالضرورة إلى التصادم بحكم طبيعتها المادية ؛ إذ لا يمكن مثلاً الانطلاق بالسيارة في شارع مكتظ بالمشاة , لأن هذا يعنى بالضرورة الاصطدام بهم . بينما على الجانب الآخر فإن الحريات الرمزية يمكن أن تتقاطع ؛ حيث يمكن للفرد المجاهرة بآراء تتعارض تماماً مع آراء البشر جميعاً , دون أن تتصادم هذه الآراء مع بعضها البعض .
فالنطاق الرمزي لحرية الأفراد في التعبير يجعل نطاقات ممارسة هذه الحرية تخلو من التدافع أو التصادم , لأنها تتشكل في دوائر رمزية يمكنها أن تتداخل وتتقاطع مع بعضها البعض .
وبالتالي ؛ يصبح من الخطأ الاحتجاج بأن حرية الفرد في التعبير تقف عند حدود حرية الآخرين في التعبير, لأن نطاق هذه الحرية هو نطاق رمزي غير محدود .
وهذا يوضح بأنه " إذا أصبحت حرية التعبير غير مطلقة، فإن ذلك يعطى سلطة ما لشخص ما ؛ لكى يقرر أين يوضع الخط الذى ينبغى عدم تجاوزه .. ولو أصبح ذلك الشخص مُمَثَّلاً فى الدولة فإن الهبوط إلى أسفل المنحدر الزلق للرقابة سيصبح عندئذ لا يُقاوم “([1]). وكما قال « جون ستيوارت مل » " فلقد مُنح الإنسان العقل لكى يستخدمه , فهل يمكن أن نقول للناس: إن عليهم ألا يستخدموا العقل إطلاقاً لأنهم قد يخطئون فى استخدامه “ ([2]).
إن الواقع يقرر أنه " ما دام مجال المناقشة والبحث مفتوحاً فإننا نأمل أن نهتدى إلى الرأى الأقرب إلى الصواب.. ولا مجال للاعتراض على التمادى فى المناقشة إلى أقصى الحدود .. لأن البرهان إذا لم يصدق على أقصى حالة فإنه لن يصدق على أية حالة أخرى... لإننا إذا ادعينا اليقين فى أمر ما مع أن هناك ولو فرد واحد ينكر ثبوته.. فإننا بذلك ندعى أننا .. أصحاب الحق دون غيرنا فى إصدار الحكم بثبوت ذلك الأمر دون أن نسمع لدفاع الفريق الآخر “([3]).
ولا يُعتبر من قبيل المبالغة القول بأن " الضرر الذى يترتب على كبت حرية التعبير عن الرأى يتمثل فى سلب الجنس البشرى بأكمله من الأسلاف حتى الجيل الحاضر من تلك الحرية .. لإنه إذا كان ذلك الرأى صائباً فهم قد حُرِموا من فرصة يستبدلون فيها الباطل بالحق. وإذا كان خاطئاً فإن الناس سيُحَْرمون من فرصة - لا تقل عن سابقتها قيمة - هى فرصة الازدياد من التعرف على الحق بشكل واضح حيوى، نتج عن مقارنته بالخطأ “ ([4]).
وفى ظل مجتمع المعلومات الذى نعيشه الآن " ينبغى للمعلومات أن تكون متاحة للتداول ؛ ذلك أن مجتمع المعلومات يمكن أن يوجد فقط لو لم تكن هناك عقبات تحول دون هذا التداول ، فهو بالتعريف مجتمع لا يتوافق مع الحظر والسرية أو عدم المساواة فى الوصول للمعلومات“ ([5]). ولعل السماح بعدم إطلاق حرية التعبير ؛ سيؤدى إلى أن يتحول مجتمع المعلومات إلى مجتمع (بعض المعلومات ) وليس ( كل المعلومات ) ؛ نظراً لما ستسفر عنه تلك الحدود والحواجز من إعاقة حركة بعض المعلومات والسماح ببعضها الآخر.
إن الواقع التكنولوجى يقرر - مثلما تقرر فلسفة حرية التعبير - أن المدى الذى يتحرك فى إطاره التعبير الإنسانى ينبغى أن يكون مدى مطلقاً، بحيث تتمتع حرية التعبير فى ظله بالحرية المطلقة غير المحدودة .
ثالثاً: محتوى الإطار اللازم لحرية التعبير:
يترتب على المدى المطلق لحرية التعبير نتيجة هامة ؛ تتمثل فى تعدد الآراء وتنوع المعلومات والأفكار والمعانى المتاحة فى المجتمع. وبالتالى فإن سيادة أحد الأفكار أو الآراء لن تكون ناشئة عن احتكار مسبق لساحة الأفكار، ولكن ناشئة عن مناقشة حرة بين كافة الآراء تتيح للرأى السائد أن يتبوأ مكانته بناءً على اختيار الأغلبية ( الجماهير ).
علاوة على ذلك ؛ فإن تعدد الأفكار والآراء يؤدى إلى وفرتها، وفى أغلب الأحوال "الوفرة على كل حال تطرح تحدياً أقل من الندرة“([6]). حيث تؤدى وفرة الآراء والأفكار إلى اشتعال جذوة النقد فى المجتمعات. وكما قرر الفيلسوف « كانط » فإن " النقد هو أفضل أداة بناء عرفها العقل البشرى “ ([7]).
وتتمثل فائدة النقد الناشئ عن تعدد الآراء والأفكار فى المجتمع فى حقيقة " أن الرأى السائد - فى أى مجتمع - إما أن يكون خطأ وبالتالى فلابد أن يكون هناك رأى آخر هو الصواب، وإما أن يكون صوابا، مما يحبذ ضرورة معارضة هذا الصواب بما يناقضه من الخطأ حتى يتمكن الذهن من الإحاطة بالحق إحاطة تامة.. وإما قد يكون لكل من الرأيين نصيب من الحقيقة.. ولابد حينئذ من تكميل الرأى المقبول بالرأى المرفوض حتى يأتلف شمل الحقيقة “ ([8]).
ولقد أثبتت العديد من التجارب البشرية " أن الاهتداء إلى الحقيقة فى جميع المسائل الحيوية إنما يكون بالتوفيق بين آراء متناقضة “ ([9]) "وما دام الناس يضطرون إلى سماع كلا الطرفين والموازنة بين أقوالهما، فسوف يَسهُل التوصل إلى الحقيقة. ولكنهم إذا اقتصروا على سماع أحد الطرفين دون الآخر، فهنا يظهر الخطأ وينحرف الصواب عن حقيقته “([10]).
ولعل مفهوم الوفرة والتعدد الذى يتسم به محتوى التعبير الإنسانى ؛ هو المفهوم الذى يتوافق بشكل كبير مع وسائل الإعلام الجديدة المتمثلة فى شبكات المعلومات. حيث تبدو « الإنترنت » الوسيلة الإعلامية الأولى التى يتزاوج فيها نطاق البث العريض مع نطاق البث الضيق. لأن سعتها اللامحدودة تؤدى إلى إمكانية استخدامها للإعلام الجماهيرى، بالإضافة إلى إمكانية استخدامها للاتصال الجمعى أو الشخصى . حيث يمكن لكل مستخدم للإنترنت أن يلعب دور المتلقى والقائم بالاتصال ضمن ملايين جماهير المتلقين والقائمين بالاتصال أيضاً، أو دور المتلقى والقائم بالاتصال ضمن جماعة اتصالية صغيرة.
وبهذا فإن مفهوم التعدد الذى يتسم به محتوى التعبير الإنسانى ؛ هو المفهوم الذى يتوافق مع التطور التكنولوجى الراهن فى وسائل الإعلام الحديثة.
رابعاً: التأثير الناتج عن الحرية المطلقة للتعبير:
يمثل التأثير الناتج عن كفالة الحرية المطلقة للتعبير ؛ الهدف والغاية من الإيمان بهذا المفهوم. فحرية التعبير المطلقة ليست غاية فى حد ذاتها، ولكنها الوسيلة المثلى لضمان السريان الحر للأفكار والمعلومات والمعرفة فى المجتمع. وكما أكد « جان جاك روسو » فإن " الحكم السليم يستند دائماً.. على الإرادة العامة التى لا تقوم إلا على الصالح العام.. وتربية الأفراد كفيلة بتكوين إرادات عامة لا يمكن التغرير بها أو إيقاعها فى الغش “ ([11]).
ولا شك أن تعدد الآراء وتنوع المعلومات والأفكار نتيجة إطلاق حرية التعبير يؤدى إلى تربية الأفراد على خبرة الاختيار والانتقاء من جملة الآراء والأفكار المعروضة، الأمر الذى يؤدى إلى تكوين الإرادة العامة التى تحقق الصالح العام.
وبهذا فإن ضمان إيجابية تأثير الأفكار والآراء ينشأ عن ضمان تعددها الذى ينشأ بدوره عن ضمان حريتها المطلقة.
وكما أوضح « جون ستيورات مل »، فإنه " حيث يسود الاتفاق على عدم المجادلة فى المبادئ والعقائد والمسائل الكبرى التى تهم الإنسانية، نجد النشاط العقلى خاملاً “ ([12]). فتقييد حرية التعبير يؤدى إلى عدم وفرة الآراء والأفكار، وبالتالى إلى اعتياد العقل البشرى على الخمول الناتج عن عدم مكابدة عناء الاختيار، بل ويُضاف إلى ذلك تحويل الأفكار الكبرى المتفق عليها فى حياة الأفراد إلى أطر خاوية بلا مضامين، " لأن عدم المناقشة لا يؤدى إلى نسيان الأسباب التى بُنيت عليها الآراء فحسب. بل يفضى غالباً إلى نسيان معانى الأراء حتى تعجز الألفاظ التى تعبِّر عنها عن توصيلها للذهن. وبدلاً من أن يصبح الرأى فى الذهن فكرة واضحة وعقيدة مؤثرة. لا تبقى هناك إلا بضع كلمات جوفاء ترددها الذاكرة عن ظهر قلب “ ([13]).
إن إيجابية التأثير هى الهدف من حرية التعبير المطلقة التى تؤدى إلى تعدد الآراء والأفكار، وإلى إقامة المجتمع الديمقراطى الذى تتحقق فى ظله المصلحة العامة. وكما أكد
« جون ديوى »، فإن " الديمقراطية ليست غاية بحد ذاتها، ولكنها وسيلة يكتشف الناس ويوسعون ويُظهرون بواسطتها طبيعتهم الإنسانية الأصلية. فالديمقراطية تُنتج أناساً أحراراً، ذلك هو الهدف النهائى للمجتمع الديمقراطى, ليس إنتاج البضائع، ولكن إنتاج كائنات بشرية حرة يرتبط الواحد منها بالآخر بشروط المساواة “ ([14]).
ولكن السؤال المؤرق والجدير بالطرح ؛ هو : هل تضمن دائماً حرية التعبير المطلقة إيجابية التأثير ؟؟ وذلك فى ظل بروز إشكالية كبرى تطل بوجهها تتمثل فى : أن الأفعال تنشأ عن الأقوال والأفكار والمعلومات والأراء ، وأن بعض الأقوال والأفكار والمعلومات والآراء قد تقود إلى أفعال ضارة بالمجتمع؛ مما يؤدى إلى سلبية التأثير الناتج عن الحرية المطلقة للتعبير وعدم إيجابيته.
والواقع أن الارتباط بين الأقوال والأفكار والمعلومات والآراء وبين الأفعال حقيقة لا يمكن إنكارها. فعلى الرغم من اختلاف الإطار الرمزى للتعبير الإنسانى عن الإطار المادى للفعل الإنسانى، إلا أن الروابط بينهما شديدة التلازم فى ظل علاقة دائرية، بحيث يفضى كل منهما إلى الآخر. فالتعبير الإنسانى تصاحبه أو تنشأ عنه أفعال، والفعل الإنسانى تصاحبه أو تنشأ عنه تعبيرات رمزية. وبالطبع لا تؤرقنا الآثار المادية الإيجابية الناتجة عن التعبير الإنسانى، ولكن الذى يثير القلق بل وربما الفزع يتمثل فى الآثار الضارة المترتبة على ذلك التعبير.
وبالتالى، فإن السؤال الذى يطرح نفسه فى هذا المجال هو: هل نقلص إذن من المدى المطلق لحرية التعبير من أجل تلافى الآثار الضارة الناشئة عن نشر بعض الأقوال أو الآراء أو الأفكار أو المعلومات؟
ولعل الإجابة على هذا السؤال تتمثل فى : أن النصوص القانونية المسبقة المُقيِّدة لمجال حرية الفعل الإنسانى - حتى لا تمتد آثاره الضارة إلى الآخرين - لا تنطبق بالضرورة على مجال حرية التعبير الإنسانى الذى هو رمزى بطبيعته، فحرية التعبير بمجالها الرمزى لا يجوز تقييدها بأية قيود قانونية مسبقة ، وإلا تم تفريغها بذلك من مضمونها ؛ وإنما فقط الآثار الضارة المترتبة على التعبير الإنسانى هى التى يتم مواجهتها بالقانون . انطلاقاً من أنه إذا ما وقع الضرر بالفعل وخرج من دائرة الاحتمال إلى أرض الواقع ؛ فإن التعبير الإنسانى حينئذ يفقد طبيعته الرمزية ويكتسب طبيعة مادية تجعله خاضعاً للقانون .
إن ما سبق يوضح .. أن السمات المميزة للإطار اللازم لحرية التعبير الإنسانى تؤدى إلى إيجابية التأثير الناشئ عن حرية هذا التعبير، باعتبار أن « رمزية » التعبير الإنسانى هى التى تجعله « مطلق » الحرية، وحريته المطلقة هى التى تكسبه « التعدد والتنوع »، وتعدده وتنوعه هما اللذان يضمنان « إيجابية تأثيره ».
ولكن رغم كل ما فندناه سابقاً ؛ فإن قدراً هائلاً من التخوف سيظل قائماً ومشهراً لدى أنصار الوصاية على حرية التعبير ؛ أو لدى المشفقين من التوابع المقلقة لهذه الحرية المطلقة ؛ باعتبار أنه رغم ترسانة القوانين الهائلة المُقيِّدة لحرية التعبير فى واقعنا المصرى ؛ فإن قدراً من الانفلات الإعلامى يطل برأسه من حين لآخر . وبالتالى فإنه فى حال تبنى مبدأ الحرية المطلقة للتعبير ؛ فإن الأمر قد ينذر بحالة من التسيب الإعلامى المفرط ويؤدى إلى خلق ديكتاتورية إعلامية قد تغرى ضعاف النفوس أو الفاسدين أو المغرضين أو حتى المغمورين مهنياً على الخوض فى أعراض الناس والمسئولين الحكوميين دون حسيب أو رقيب .
وفى تقديرى ؛ فإن هذا التخوف رغم امتلاكه للكثير من مظاهر الوجاهة التى تجعله بمثابة كرسى فى الكلوب ؛ وضربة فى القلب لمبدأ الحرية المطلقة للتعبير . إلا أن التحليل العلمى والموضوعى يقودان إلى نتيجة معاكسة لذلك تماماً !!! وهذا هو ما سنفنده فى المقال القادم بإذن الله تعالى .
¶¶¶¶¶
دكتور / محمد محفوظ
[email protected]
Comment *


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.