في ساعات الصباح الصغيرة.. رأيت أطفال المدارس اليهود في تل أبيب، تنقلهم إلي مدارسهم سيارات مكيفة، وهم ينشدون بالعبرية نشيدا يمجد "الوطن" الذي اغتصبه لهم اَباؤهم بقوة السلاح! وقبل أيام.. رأيت طفلا فلسطينيا في إحدي القري المتاخمة للقدس العربية، وهو يتسلق جبلا من الركام ليصل إلي فتحة في الجدار العازل، يمرق منها هابطا إلي مدرسته أسفل الجدار.. إنه طريقه المشنوق في الهواء، يقطعه كل يوم إلي أجراس العلم والمعرفة! ما هذا الذي يجري علي أرض فلسطين، ويقلب جمر الأسي في قلب الحزين؟ الأربعاء 30 مارس الماضي.. اهتزت قبضات الشباب الفلسطيني تطعن الهواء غضباء في الذكري ال 29 ليوم الأرض.. يوم سقط 6 شهداء دفاعا عن تراب الجليل الأعلي في الشمال الفلسطيني قبل أن يتم تهويده.. واليوم يدافع الفلسطينيون بلا سلاح عن أراضي الخط الأخضر التي ولغ فيها جدار الفصل وتوغل.. مثلما يحاولون الذود عن صحراء النقب في أقصي الجنوب.. أرض القبائل العربية ومراعي أغنامها، التي يستهدفها الاَن الفك المفترس للاستيطان! يوليو من العام الماضي.. أصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي حكمها في الدعوي التي أقامها الفلسطينيون ضد الجدار الجائر.. استغرق منطوق الحكم وحيثياته 60 صفحة من زبدة القانون الدولي وفكره الراقي، ساقها بعبارات مدققة بليغة 15 قاضيا، هم كل أعضاء دائرة المحكمة.. في منطوقه وصف الحكم الجدار بأنه عائق Barrier وأنه انتهاك للقانون الدولي.. وطالب بوقف البناء فيه وقفا فوريا، وتدمير الأجزاء التي تم بناؤها تدميرا تاما يسويها بالأرض Berazed مع تعويض الفلسطينيين المتضررين من البناء عما أصابهم من ضرر! أصاب الارتباك الشديد حكومة شارون.. لم يتفوه رئيس الحكومة بكلمة ضد الحكم، لكنه عقد جلسة طارئة لمجلس الوزراء حضرها مناحم معزوز المدعي العام وكبار مسئولي وزارة العدل.. وغادر معزوز الاجتماع ليعقد اجتماعا اَخر مع كبار المختصين من الوزارات المختلفة المرتبطة بمشروع بناء الجدار! وتوالت التصريحات الإسرائيلية المحمومة.. سيلفان شالوم وزير الخارجية: سوف نواصل بناء جدار الأمن! يوسف لابيد وزير العدل: لن ننفذ حكم محكمة العدل الدولية.. سوف ننفذ فقط حكم المحكمة العليا الإسرائيلية التي أمرت وزارة الدفاع 30 يونية الماضي بتعديل مسار الجدار في مسافة 30 كيلو مترا شمال غرب القدس.. وطالبتها بأن تراعي الموازنة بين اعتبارات الأمن واحتياجات السكان المحليين في المنطقة! ووصف داي جيلرمان سفير إسرائيل لدي الأممالمتحدة حكم محكمة العدل الدولية بأنه فظيع ومروع Shocking and appalling! بينما اتهم شيمون بيريز حكم المحكمة بأنه تجاهل حق الحياة كحق أساسي من حقوق الإنسان.. وأضاف: في يقيني أن هذا القرار سوف يلقي مصيره في سلة مهملات التاريخ! لاجئون.. داخل أراضيهم! هذا الجدار الجائر سوف يمتد بطول 245 كيلو مترا.. وهو مكون من قاعدة خرسانية وهيكل من الأسلاك الشائكة بارتفاع 5 أمتار.. وعلي جانبيه حفرة بعمق 4 أمتار، مغطاة كذلك بأسلاك شائكة.. والجدار مزود بأجهزة استشعار الكترونية، بالإضافة إلي طريق محاز من الرمل الناعم يسهل رصد المتسلل إلي الجدار وتتبعه! ثمة جزء من الجدار بطول 5.8 كيلو متر مكون من حائط خرساني بارتفاع 8 أمتار، مثبت عليه أبراج للمراقبة.. يسمونة "حائط القناصة" وهو يحيط بمدينة قلقيلية والهدف منه حماية طريق سريع يمر بالمنطقة إلي داخل إسرائيل! بدأ بناء الجدار في يونية 2002 في المنطقة بين مدينتي قلقيلية وجنين، تم الانتهاء من بناء 150 كيلو مترا حتي الاَن، وباق 95 كيلو مترا أخري! صادرت إسرائيل مساحات من أراضي الفلسطينيين غير معلومة المقدار لإقامة الجدار حرمت المزارعين والتجار من الوصول إلي وسائل معيشتهم.. حالت بين الزارع والمزرعة.. بين التاجر والسوق.. بين التلميذ والمدرسة.. بين الحقل ونبع الماء! قلقيلية سلة فواكه الضفة الغربية عزلها الجدار وحاصرأسواقها من ثلاث جهات عن بيارات الفاكهة ومصادر المياه.. ولم يترك لأهلها 40 ألف إنسان غير طريق واحد يصلها ببقية الضفة الغربية، تتحكم فيه نقطة تفتيش إسرائيلية! أدانت الأممالمتحدة الجدار الجائر.. في 30 سبتمبر من العام الماضي أصدرت تقريرا يدين بناء الجدار، ويصفه بأنه "غير شرعي" ويرقي إلي مستوي "عمل غير قانوني للاستيلاء علي أراضي الغير"! وفي تقرير للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، قال جون دوجارد أستاذ القانون بجامعة كيب تاون: إن نحو 210 اَلاف فلسطيني يعيشون في المنطقة المحصورة بين السور وإسرائيل، سيكونون في معزل تام عن الخدمات الاجتماعية والمدارس وأماكن العمل.. مما سيؤدي إلي ظهور جيل جديد من اللاجئين المشردين.. داخل أراضيهم!