كشف تحقيق موسّع عن موجة غير مسبوقة من «القمع المعرفي» في الولاياتالمتحدة، تقودها إدارة دونالد ترامب في نسختها المتشددة، وتستهدف بعضا من روافد الوعي البشري، من قاعات الجامعات، إلى مختبرات العلم، إلى رفوف المكتبات. ليست قرارات عشوائية أو سياسات متفرقة؛ وإنما هجوم شامل، مدروس، على جوهر التقدّم، والمعرفة، حيث تتحرك إدارة ترامب بعينٍ مفتوحة على تفكيك العقل الأمريكي، وتجريده من أدوات التحليل والتفكير والنقد. باسم "أمريكا العظيمة" يتم تهديد الجامعات بسحب التمويل، وتحويل مؤسسات ثقافية مرموقة مثل "سميثسونيان" إلى منصات ترويج للأيديولوجيا بدلاً من الاستكشاف والتنوير. وتحت لافتة "محاربة الانحياز"، تُحذف قواعد بيانات صحية تم بناؤها عبر عقود، وتُجبر مراكز الأبحاث على اتّباع أجندات سلطوية لا علاقة لها بالعلم أو الحقيقة. وصفت مجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكية، إن ما يحصل في الولاياتالمتحدة نحو المؤسسات التعليمية، هو عصر مُظلم جديد يحدث بوسائل أكثر دهاء، من الرقابة، والتجويع المعرفي، ونزع الشرعية عن كل من يطرح سؤالًا خارج النص. وبحسب ما أوردته المجلة، لا يكتفي التيار الترامبي بالسعي للهيمنة السياسية، بل يتجاوز ذلك إلى ما هو أخطر، إلى تفكيك واحدة من أعظم إنجازات أمريكا، وهي منظومة المعرفة، وتدمير هذه المنظومة لا يعني فقط إضعاف الجامعات أو الأبحاث في الولاياتالمتحدة، بل شلّ الديمقراطية نفسها، عبر منع الرقابة على السلطة الأمريكية، وتقليص دور العقل والعلم في صناعة القرار. اقرأ أيضًا: المحكمة الفيدرالية تمنع الرئيس الأمريكي من تنفيذ رسوم جمركية جديدة الجامعات الأمريكية في مرمى النيران في يوم الخميس الماضي، ألغت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، صلاحية جامعة هارفارد في تسجيل الطلاب الدوليين، ما يعني أن الطلاب الأجانب الجدد لن يتمكنوا من الالتحاق، والحاليين قد يضطرون إلى الرحيل أو يفقدوا إقامتهم القانونية. وقالت وزارة الأمن الداخلي الأمريكية في بيان رسمي: "لم يعد بإمكان هارفارد تسجيل الطلاب الأجانب، وعلى الطلاب الحاليين الانتقال أو فقدان وضعهم القانوني". وجاء هذا القرار بأمر مُباشر من وزيرة الأمن الداخلي الأمريكية، كريستي نويم، التي بررت الخطوة برفض الجامعة تسليم سجلات سلوك الطلاب الأجانب، التي طلبتها الوزارة في وقت سابق. وبهذا، بدا واضحًا أن العقوبة ليست قانونية بقدر ما هي سياسية، تستهدف مؤسسة نخبويّة رفضت الانصياع لتوجهات إدارة ترامب. وأصبحت مؤسسات التعليم العالي أبرز أهداف هذا الهجوم، وخسرت جامعات مرموقة مثل كورنيل، برينستون، ونورث وسترن مئات الملايين من التمويل الفيدرالي، وفقدت جامعة جونز هوبكنز وحدها 800 مليون دولار، ما يهدد مشاريعها الصحية من بالتيمور حتى موزمبيق، وتم ذلك بعدما جُمّد التمويل دون أي تفسير. شروط أيديولوجية صارمة مقابل التمويل.. ما القصة؟ فرضت إدارة ترامب، مطالب أيديولوجية على الجامعات الأمريكية، فيما رفضت هارفارد، ذلك ولجأت للقضاء، وقال رئيسها: "لا يحق لأي حكومة أن تملي علينا ما ندرّسه أو من نوظف". «ويست بوينت».. نموذج للجامعة «المثالية» في نظر ترامب في الأكاديمية العسكرية العريقة "ويست بوينت"، بدأت إدارة ترامب حملة ممنهجة لإعادة تشكيل المناهج الدراسية وفق رؤيتها الأيديولوجية، بهدف تطهير المقررات من أي محتوى يتناول قضايا العرق أو النوع الاجتماعي. وفي هذا السياق، تم إجبار أحد الأساتذة على حذف أي مصطلحات توازي الإبادة الجماعية، بينما استُبعدت أعمال أدبية مهمة لكُتّاب بارزين مثل توني موريسون وجيمس بالدوين من قوائم القراءة. وبحسب مجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكية، فإن ذلك يحوّل "ويست بوينت" إلى نموذج تعليمي مغلق، يخلو من أي نقاش جاد حول التاريخ، أو العدالة، أو التنوع، في ظل رؤية تسعى إلى إنتاج جيل يكرر ما يُملى عليه، لا ما يتعلّمه من نقد أو تفكير حر. فيما حاولت جامعة كولومبيا، تليين المواقف للحفاظ على 400 مليون دولار، لكنها اكتشفت أن الاستجابة لمطالب إدارة ترامب تفتح الباب لمزيد من الابتزاز. حيث طُرحت مطالب جديدة، قد تنتهي بسيطرة الحكومة الأمريكية على الجامعة عبر مرسوم قضائي. وفقًا لمجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكية، هذه المليارات التي تُسحب من الجامعات الأمريكية ليست أرقامًا على ورق، حيث إنها تموّل مختبرات، وتعطى منح دراسية، وتزويد أرشيفات علمية، من دونها، تُغلق أقسام وتُعلّق أبحاث، وتتراجع فرص الطلاب. أكبر الضربات طالت الصحة والبحث العلمي امتد الهجوم إلى داخل الحكومة الأمريكية، فآلاف الموظفين في مراكز السيطرة على الأمراض طُردوا، بينهم مَن يراقب الأمراض ويضمن سلامة أماكن العمل، حتى إن إدارة الغذاء والدواء خسرت علماء يختبرون الأغذية والأدوية، وكذلك وكالة حماية البيئة أُفرغت من ذراعها البحثية. تلقت الوكالات العلمية الكبرى كالNIH وNSF، ضربات مدمّرة، فمنذ يناير، فقدت NIH أكثر من ملياري دولار وسُرّح 1300 موظف، وبسبب ذلك، توقفت أبحاث عن الخرف والسرطان، وخُفّضت منح NSF بشكل كبير، خاصة تلك المتعلقة بالتنوع والعدالة. بينما لم تسلم البيانات من الحذف، حيث اختفت معلومات حيوية عن الصحة العامة والوفيات، وتلقى موظفو NIH تعليمات بإلغاء المشاريع التي تتناول قضايا التنوّع والعدالة البيئية، حتى داخل وزارة الصحة الأمريكية، أُلغيت 12 قاعدة بيانات، ما يجعل تقييم الأداء كارثيًا أمرًا شبه مستحيل. وعلى غرار ذلك، قال أحد المتخصصين في الصحة العامة: "إذا لم ندرس المشكلة، فهذا لا يعني أنها غير موجودة، بل أننا ببساطة لا نعرف". أما الأثر الأول للهجوم على المؤسسات التعليمية سيكون تراجع التقدم العلمي والتكنولوجي، فالطب والزراعة والإنترنت والGPS، كلها قامت على أبحاث ممولة من الحكومة الأمريكية، والشركات الخاصة لا تغامر في البدايات، بل تبني على ما موّلته الدولة، وتراجع الدعم يعني إبطاء مسيرة التقدم لعقود. المعركة الخفية.. إسكات الدراسات الاجتماعية لا يتوقف الضرر عند العلوم الصلبة. حيث يتم إيقاف الأبحاث التي تتناول الفروقات العرقية والاقتصادية والصحية بحجة محاربة "الوعي الزائد"، لكن الهدف الخفي منع أي بحث قد يدعم المساواة أو يدعو لإصلاحات اقتصادية واجتماعية. وقال فيليب أتيبا سولومون، أستاذ بجامعة ييل: "عندما ندرس كوفيد طويل الأمد، نجد نتائج لا تعجبهم، لذلك يختلقون واقعهم، ويقمعون من يقدّم الحقيقة"، إنهم يخافون من الحقائق، لأنها تكشف عيوب منظومتهم. تراجع ترامب عن الرسوم الجمركية تراجع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب مُؤخرًا عن بعض قراراته بشأن الرسوم الجمركية، بعدما بدأت عائدات السندات في الارتفاع بشكل حاد، وهو ما اعتُبر مؤشرًا على أزمة اقتصادية وشيكة، وكانت إدارة ترامب قد حاولت سابقًا استبدال ضريبة الدخل – التي يستفيد منها الأثرياء – برسوم جمركية. بينما يرى مراقبون أن تجنّب الكارثة الاقتصادية يتطلب بيانات شفافة، لكن في حال وقعت الأزمة، قد تلجأ إدارة ترامب إلى التضليل وتزييف الحقائق، خاصة مع غياب مؤسسات قادرة على تقديم بيانات تُفند الأكاذيب، بحسب مجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكية. المحافظون يواصلون استهداف الجامعات أعاد الجمهوريون هجومهم على التعليم العالي في الولاياتالمتحدة، إذ سبق لنائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس أن استشهد بكلام للرئيس الأسبق نيكسون قائلاً: "الأساتذة هم العدو"، منتقدًا ما وصفه بهيمنة الفكر الليبرالي داخل الجامعات الأمريكية، ويرى فانس أن المؤسسات الأكاديمية تُصعّب على الأفكار المحافظة الانتشار، لكن إدارة ترامب، بحسب محللين، تكشف عن هدف أعمق وهو: تفكيك البنية المعرفية التي يمكن أن تقف في وجه الترامبية. وفي خطوة لافتة، ألغت إدارة ترامب منحة بحثية حول التغير المناخي كانت مخصصة لجامعة برينستون، بزعم أنها قد تُسبب "قلقًا مناخيًا" للأطفال، كما اشتكت من تقارير بثتها NPR تصف رخويات الموز بأنها كائنات خنثى، واعتبرتها إدارة ترامب "دعاية مستيقظة". استهداف مباشر للعاملين في مجال المعرفة تتجه إدارة ترامب نحو تقليص تمويل الجامعات الأمريكية والمؤسسات العلمية في الولايات الامتحدة، ما يهدد بتقليص عدد الباحثين والأكاديميين، وتراجع فرص الطلاب بعد التخرج، وتشمل هذه الإجراءات تقليص البرامج التي تدعم الأقليات في تخصصات STEM، في محاولة لصناعة نخبة تعليمية أكثر بياضًا وثراءً، والهدف الواضح – بحسب محللين – هو تقليل عدد المتعلمين الذين قد يشكلون قاعدة انتخابية مناوئة. ويرى ترامب وحلفاؤه أن المتعلمين تعليمًا عاليًا يُمثلون تهديدًا لمشروع "لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا"، خاصة بعد توجههم نحو التصويت لليسار في الانتخابات الأخيرة، لذلك تسعى إدارة ترامب إلى تقليص تأثير التعليم العالي عبر تفكيك الجامعات والبرامج الأكاديمية، للحد من نمو القاعدة الانتخابية الديمقراطية، في المقابل، يُفضل الداعمون التكنولوجيون لترامب عمالاً مطيعين بدلاً من مواطنين نشطين سياسيًا، بخسب مجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكية. بحسب المجلة ذاتها، فإن الشهادات الجامعية لا تحمي من تبني أفكار خاطئة، لكن العديد من أنصار ترامب باتوا يعتبرون الجامعات مصدرًا للتلقين الليبرالي، ويرغبون في إنهاء ثقة الناس بأي سلطة معرفية خارج توجه ترامب. وسبق لترامب أن صرح في 2018 بأنه يسعى إلى "تشويه سمعة وسائل الإعلام حتى لا يصدقها أحد عندما تكتب عنه أخبارًا سلبية". رؤية فانس لمستقبل التعليم في خطاب له عام 2021، قال جي دي فانس، إن فكرة أن "النجاح لا يأتي إلا من خلال جامعة مدتها أربع سنوات" خاطئة، وهاجم المؤسسات التي "تُعلّم الطلاب كراهية وطنهم وتُثقلهم بالديون"، غير أن تدمير هذه المؤسسات – وفق محللين – لن يُحسن وضع العمال، بل سيخدم طبقة الممولين الذين يدعمون ترامب عبر تفكيك الخدمات العامة وتقليص الضرائب على الأثرياء. أشارت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية، إلى تحرك إدارة ترامب نحو خصخصة أعداد كبيرة من وظائف وأصول الحكومة الأمريكية، بدعم من الملياردير إيلون ماسك، وتهدف الخطة إلى استبدال الموظفين العموميين بتقنيات الذكاء الاصطناعي غير المجربة، في خطوة تسعى لإنقاذ استثمارات شركات التكنولوجيا الخاصة، والمفارقة أن هذه التقنيات طُورت أصلاً بدعم من نفس الوكالات الحكومية التي تسعى إدارة ترامب لتفكيكها. يرى مراقبون أن الهجوم على المعرفة في حقيقته هجوم على الشفافية والمساءلة، فالمحاسبة تبدأ من توفر المعلومات، لكن مع إضعاف المؤسسات الرقابية مثل الأرشيف الوطني ومكاتب المفتشين العامين، تصبح الحكومة الأمريكية غير خاضعة للرقابة، وكان ترامب قد أقال رئيس الأرشيف الوطني في فبراير، في خطوة أثارت مخاوف من تلاعب أو إتلاف السجلات التاريخية. وذكرت تقارير أن إدارة ترامب أزالت قواعد بيانات مهمة، مثل قاعدة بيانات خاصة بمخالفات ضباط إنفاذ القانون. وأشارت صحيفة "The Appeal" إلى أن هذه الخطوة تُسهل على الضباط المتهمين بمخالفات الاستمرار في العمل دون مساءلة، كما أُقيل محامون داخل وزارتي العدل والدفاع الأمريكية لمنعهم من تقديم نصائح قانونية قد تُقيد الرئيس الأمريكي، في ممارسات تُشبه منطق "لا جثة، لا دليل، لا جريمة". كشف أستاذ القانون جون كيو. باريت عن حالات فساد خطيرة اكتشفها مكتب المفتش العام بوزارة العدل الأمريكية في التسعينيات، شملت أدلة جنائية خاطئة ورشى لمسؤولي السجون، وأكد أن الهجوم على المعرفة سيؤدي إلى ازدهار "الفساد البسيط"، محذرًا من أن غياب الرقابة سيُشجع على سوء الإدارة والاحتيال داخل المؤسسات الحكومية الأمريكية.