منذ عودته مرة أخرى للبيت الأبيض، قرر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب أن يرتدي عباءة «حامي اليهود»، لكن المدهش أن هذه العباءة لم تُفصَّل لليهود أنفسهم، بل لخصومه، وللرأي العام، وللآلة الإعلامية التي تلتهم العناوين الصادمة. تدّعي الإدارة الأمريكية، تحت شعارات زائفة، «حماية اليهود من معاداة السامية»، بينما تُمرر سياسات تضرّ بمصالحهم، وتتعارض مع قناعات الأغلبية الساحقة منهم. فتحركات البيت الأبيض الأخيرة بدايةً من طرد طلاب مؤيدين لفلسطين، إلى تهديد الجامعات، وحتى السخرية المبطنة ب"شالوم كولومبيا" ليست إلا جزءًا من مسرحية كبيرة، حيث تُستَخدم «معاداة السامية» كذريعة سياسية جاهزة لخنق الأصوات المعارضة وشرعنة أجندة متطرفة، وفقًا لمجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكية. والمفارقة الصادمة أن معظم اليهود الأمريكيين لا يتفقون مع هذه الأجندة، بل يعارضونها، فمنذ صعوده، استخدم دونالد ترامب، معاداة السامية كعملة سياسية، يلوح بها حين يحتاج إلى إسكات معارضيه، فتحت ذريعة «حماية اليهود»، طارد طلاب الجامعات بالولاياتالمتحدة، وأوقف التمويل، ورحل مهاجرين، وحاصر الأصوات النقدية،«في قصة سلطةٍ تعرف كيف تصنع من الضحية قناعًا يخفي وجه الجلاد». اقرأ أيضًا| «ذا أتلانتيك» تحلل تداعيات سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على مستقبل التحالفات الدولية ◄أجندة ترحيل لا علاقة لها بحماية اليهود بحسب «ذا أتلانتيك»، تكشف هذه الوقائع أن حملة الترحيل التي أطلقتها الإدارة الأمريكية لم يكن هدفها الحقيقي الدفاع عن اليهود، بل جاءت كجزء من مشروع أوسع معادٍ للأجانب، يسعى لإعادة تشكيل أمريكا وفق رؤية محدودة لفئة بعينها، وقد أعرب عن هذه الرؤية نائب الرئيس الأمريكي، جي دي فانس خلال المؤتمر الوطني الجمهوري 2024 بقوله: «أمريكا ليست مجرد فكرة، بل هي مجموعة من الناس يجمعهم تاريخ ومستقبل مشترك... من تقاليدنا الترحيب بالوافدين الجدد، لكن وفق شروطنا نحن». أما ستيفن ميلر، مستشار الأمن الداخلي الأمريكي، فلم يُخفِ توجهه حين صرّح في تجمع جماهيري بأكتوبر قائلًا: «أمريكا للأمريكيين فقط». ◄قرارات تنفيذية لتضييق أبواب الوطن تتماشى هذه السياسات القومية مع قرارات ترامب التي صدرت مع بداية ولايته، حين وقّع أوامر لإنهاء منح الجنسية بالولادة، وعلّق إعادة توطين اللاجئين، ليُباشر بعدها ترحيل المقيمين الأجانب تحت أي ذريعة ممكنة. لم تكن محاربة معاداة السامية الهدف الحقيقي، بل غطاءً مناسبًا لتسريع تنفيذ أجندة قومية أعمق، ومثال واضح على ذلك: تقرير لموقع «آكسيوس» الأمريكي خلال الأسبوع الماضي كشف أن إدارة ترامب تناقش منع بعض الجامعات من استقبال طلاب أجانب إذا اعتُبر أن عددًا كبيرًا منهم منخرطون في احتجاجات داعمة لفلسطين. ونتيجة لذلك، بات عدد من الطلاب الأجانب يحجم عن الدراسة في الولاياتالمتحدة، خوفًا من مصير قد يتبدل مع أي تغيّر سياسي مفاجئ. ◄استغلال المخاوف اليهودية لضرب الجامعات في موازاة هذه الحملات، تستغل إدارة ترامب مخاوف اليهود كذريعة لتمرير خططها في معاقبة الجامعات الأمريكية، ورغم الادعاء أن هذه الخطوات لحماية اليهود بالحرم الجامعي بالولاياتالمتحدة، إلا أنها في الحقيقة جزء من حرب أوسع على التعليم العالي، الذي يراه ترامب وحلفاؤه مركزًا للنفوذ الثقافي المناهض لهم، وفقًا لما أشارت له «ذا أتلانتيك» الأمريكية. ويُذكر أنه قد صرّح فانس في مؤتمر المحافظين في 2021: «إذا أردنا فعل ما نطمح له لهذا البلد، فعلينا مهاجمة الجامعات بصدق وعدوانية»، بحسب وصفه. أما كريستوفر روفو، أحد أكثر النشطاء اليمينيين تأثيرًا، فقال لصحيفة «نيويورك تايمز» مؤخرًا: «إجبار قطاع الجامعات على ركود اقتصادي سيكون أمرًا مفيدًا للغاية... خفض الميزانيات، فرض سوق تنافسي ضاغط، ووضع الجامعات تحت ضغط دائم كلها وسائل ستؤدب هذه المؤسسات»، بحسب قوله. اقرأ أيضًا| ترامب و«الفوضى المنظمة».. كيف تواجه الدول نهجه غير المتوقع؟ ◄ما وراء إعادة تشكيل التعليم العالي الأمريكي ويُعد كريستوفر روفو من أبرز الشخصيات في حركة إعادة تشكيل التعليم العالي الأمريكي، ففي عام 2023، عيّنه الحاكم الجمهوري الأمريكي، رون ديسانتيس أمينًا على كلية فلوريدا الجديدة، حيث أقدم هو وفريقه على إلغاء إدارة التنوع والشمول (DEI) وقسم دراسات النوع الاجتماعي، محوّلين الكلية إلى ما وصفوه ب"كلية فنون ليبرالية كلاسيكية". ومنذ ذلك الحين، وسّع روفو نشاطه ليقود "ثورته المضادة" من داخل واشنطن وخارجها، حيث أعلن عبر منصة «إكس» في 12 نوفمبر 2024 عن مطلبه: "إلغاء وزارة التعليم"، ولم يمضِ وقت طويل حتى وقّع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في 20 مارس 2025، أمرًا تنفيذيًا لتحقيق هذا الهدف. ◄اليهود الأمريكيون ورفض الأجندة القومية وفقًا لمجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكية، رغم أن ترامب حرص في حملته لعام 2024 على تقديم نفسه كمدافع عن اليهود، متعهّدًا بطرد المتظاهرين المناهضين لإسرائيل، وتعهد في برنامج الحزب الجمهوري بترحيل المتضامنين مع الفلسطينيين من الجامعات، إلا أن الأغلبية الساحقة من اليهود الأمريكيين صوّتوا ضده للمرة الثالثة على التوالي. في المقابل، تشتتت أصوات المتظاهرين ضد الحرب على غزة بين مقاطعة التصويت، ودعم حزب ثالث، أو حتى التصويت لترامب، ووسط هذا المشهد، وُجهت اتهامات لليهود الأمريكيين عبر وسائل التواصل بأنهم مسؤولون عن سياسات ترامب، في صورة نمطية معروفة تلجأ لتحميل الأقلية أوزار قرارات لم يصوتوا لها، بحسب «ذا أتلانتيك». ◄معضلة اليهود مع الجامعات الأمريكية أشارت «ذا أتلانتيك» أيضًا إلى أن رفض اليهود لترامب لم يكن يعني بالضرورة دعمهم لحركة الاحتجاج المناهضة لإسرائيل، بل كان نابعًا من إحساسهم العميق بتخلي الجامعات عنهم، حيث شعر كثيرون منهم بأن المؤسسات التعليمية الأمريكية فشلت في تطبيق قوانينها بحياد. ◄ازدواجية المعايير أعرب العديد من اليهود الأمريكيين عن استيائهم من ازدواجية المعايير داخل الجامعات بالولاياتالمتحدة، خاصة عندما تغاضت إداراتها عن شعارات مثل "عولمة الانتفاضة" و"من النهر إلى البحر"، أو عن احتفالات منظمة "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" بعملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر التي قامت بها الفضائل الفلسطينية في الداخل الإسرائيلي. ◄استغلال ترامب لفشل الجامعات بدل أن تعالج إدارة ترامب هذه الإخفاقات، استغلتها لتبرير حملتها ضد الجامعات الأمريكية، ووسط هذه المعركة، وجد اليهود الأمريكيون أنفسهم محاصرين من الطرفين: البيت الأبيض يوظفهم لتسويق أجندته المتشددة، بينما يتهمهم معارضو ترامب بتمكين سياساته لمجرد دفاعهم عن أنفسهم ضد معاداة السامية، وفقًا لمجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكية. ويشكّل اليهود 2% فقط من سكان الولاياتالمتحدة، وهم مجموعة معروفة بانقساماتها السياسية والاجتماعية، وبينما تميل أقلية صغيرة منهم لدعم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب بحثًا عن ملاذ قوي في وجه تصاعد معاداة السامية، يرى معظمهم في التجارب القومية المتشددة تهديدًا وجوديًا. ◄صدام يميني داخلي يتجلى هذا التصادم داخل التيار المحافظ نفسه، ففي عام 2023، هاجم الإعلامي اليميني المؤثر تاكر كارلسون المعلق اليهودي المؤيد لترامب بن شابيرو، قائلًا في أحد البودكاستات: «إنهم لا يهتمون بهذا البلد إطلاقًا، أنا أهتم لأنني من هنا، وعائلتي هنا منذ مئات السنين، أنا مصدوم من قلة اهتمامهم، بما في ذلك الشخص الذي ذكرته». وهكذا يظهر أن حتى مؤيدي ترامب اليهود لا يسلمون من الشكوك داخل معسكره، بحسب مجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكية. اقرأ أيضًا| هل يقف إيلون ماسك وراء تحولات السياسة اليمينية حول العالم؟