تنازعت الآراء علي نحو محتدم وهي تتباحث حول العديد من المواد التي تضمنها مشروع الدستور الجديد للبلاد، وأخذت تلك الرؤي مناحي شتي لفريق تغلغلت في أعماقه انه يحمل رسالة بعث أمة من جديد في ظل رؤي مثيرة للجدل تعزف علي أوتار العقيدة، يعتمد في الاساس ويراهن دائما علي كتلة من الأصوات لمجتمع يعاني بشدة من أمية التعليم والتدهور المعيشي، ومن ثم يصبح من السهل اقتياده تحت مسميات مقدسة غير قابلة للنقاش حولها، وبين فريق آخر بأطياف عديدة ممتدة يعتمد في رؤاه علي المنطق المدني لتنظيم مجتمعه علي جميع المسارات السياسية والاقتصادية والروحية. إلا انه في ظل هذا الجدل المحتدم نجد أن الأعين قد غفلت عن مواد لا تقل أهمية عما يثار حاليا حول مواد نظام الحكم والعلاقة بين السلطات ومواد الشريعة ومدي الاستناد الي مبادئها أو أحكامها. والمقصود هنا هو المواد التي ستحكم ماهية الاقتصاد الذي يرتضيه المجتمع والآليات التي تديره والهدف الأساسي الذي يبتغيه فإذا كان اختيار النظام السياسي يعتبر الدعامة الأولي في ممارسة الحياة العامة للمجتمع فإن اختيار النظام الاقتصادي المنشود هو المحور الذي ترتكز عليه سبل معيشة المواطن واستمراره في الحياة. ولعل من أهم المواد التي تناولت الشأن الاقتصادي المادة (14) التي جاءت بالفصل الثالث تحت عنوان "المقومات الاقتصادية" وقد جاء نص هذه المادة علي النحو التالي: يهدف الاقتصاد الوطني الي تحقيق التنمية المطردة الشاملة، ورفع مستوي المعيشة وتحقيق الرفاه والقضاء علي الفقر والبطالة وزيادة فرص العمل وزيادة الانتاج والدخل القومي. وتعمل خطة التنمية علي اقامة العدالة الاجتماعية والتكافل وضمان عدالة التوزيع وحماية حقوق المستهلك والمحافظة علي حقوق العاملين والمشاركة بين رأس المال والعمل في تحمل تكاليف التنمية والاقتسام العادل لعوائدها. ويجب ربط الأجر بالانتاج وتقريب الفوارق بين الدخول وضمان حد أدني للأجور والمعاشات يكفل حياة كريمة لكل مواطن وحد أقصي في أجهزة الدولة لا يستثني منه إلا بناء علي قانون. وهذه المادة تعتبر من أطول المواد نصا بمشروع هذا الدستور نتيجة لتناولها لتفاصيل بل وتكرار لفظي لمعني واحد وقد يكون صائغها ليس علي دراية كافية بالتعبيرات والمدلولات الاقتصادية فدائما ما يسمي اقتصاد أي دولة بالاقتصاد القومي وليس بالاقتصاد الوطني الذي قد يوحي بمعان وطنية بعيدة عن المدلول الاقتصادي المتعارف عليه وذلك قياسا علي اصطلاح الدخل القومي والناتج القومي كما انه من الطبيعي ان زيادة فرص العمل تعني القضاء علي البطالة وفي هذا تكرار لا طائل من ورائه كذلك فإن المصطلح الشائع "اقامة عدالة اجتماعية" يشمل فيما يشمل: ضمان عدالة التوزيع وتقريب الفوارق بين الدخول وضمان حد أدني للأجور والمعاشات يكفل حياة كريمة لكل مواطن وبالتالي كان يكفي مصطلح هذه العبارة فقط لتفي بالمطلوب ومن المنطق الاقتصادي ايضا ان زيادة الانتاج من شأنها ان تؤدي الي زيادة الدخل وكان يكتفي بالأخيرة فقط وأخيرا في هذا الصدد فإن تحقيق الرفاة هو الوجه الآخر او المرحلة الاخيرة من القضاء علي الفقر، وهكذا فإن الدخول في دوامة التفاصيل والتكرار كثيرا ما توقع صانعها في دائرة الخطأ وسوء التفسير والاستدلال وتوحي بنوع من التشوش الفكري بل قد تجر تلك التفصيلات التي ربما تتناسب مع لائحة تفسيرية لقانون وليس مادة دستورية ان تدعو الي التساؤل عن مدي اعتبار ما ورد من أهداف وأوامر بتلك المادة علي هذا النحو هل هي علي سبيل المثال أم علي سبيل الحصر وبالتالي لا يجوز تصور أهداف أو مطالب اخري تدعو اليه هذه المادة في مقصدها. هذا من ناحية الشكل، أما من ناحية المضمون فقد وردت بعض العبارات والمصطلحات التي من المؤكد انها تحتاج الي شفافية في مقصدها وما يكمن في ضمير من وضعها ومن ذلك: أن خطة التنمية تعمل علي اقامة التكافل فإذا كان المقصود به هو اقامة فريضة الزكاة وما يعنيه من تولي قيام الحكومة بهذا الأمر التعبدي فهو في النهاية خلط غير مستحب بين ما يجب ان يقوم به المسلم تجاه ربه وما يقوم به تجاه ربه، وما يقوم به تجاه حكومته وهو تعمد مدسوس طالما يتم اللجوء اليه علي شاكلة "ان لله جنودا في الدستور" جريا علي قول الخليفة الأموي الثاني يزيد بن معاوية الذي دس رجاله السم في غسل أهدي الي الحسن بن علي رضي الله عنهما فلما تلقي يزيد خبر موت الحسن رضي الله عنه بالسم قال: ان لله جنودا في العسل!! وتستهل الفقرة الأخيرة من هذه المادة بمقولة اقتصادية شهيرة في كتب الاقتصاد وإدارة الأعمال طالما تشدق بها -في تكرار ممل- رؤساء حكومات مصرية سابقة كثيرة تقول: ويجب ربط الأجر بالانتاج رغم علمهم الجازم بمدي انتاجية العامل المصري البالغة التدهور الناشئة عن ظروف ليس المجال هنا لبحثها خاصة في القطاع الحكومي الذي يحوي وحده أكثر من 6 ملايين موظف وعامل انه سوف يترتب علي حتمية وجوب تنفيذ هذا النص انقاص لرواتب هؤلاء الي اقل من العشر فهل هذا هو المقصود؟ وأخيرا تقابلنا عبارة تحمل قدرا من الغموض في ظاهرها وفي باطنها جاءت ضمن ما تسعي إليه خطة التنمية: "المشاركة بين رأس المال والعمل في تحمل تكاليف التنمية، والاقتسام العادل لعوائدها". فمن المتعارف عليه في علم الاقتصاد الوضعي أن الإنتاج يقوم علي عناصر أربعة هي: رأس المال والعمل والإدارة والأرض "الطبيعة"، وأن عوائدها علي التوالي هي: الفائدة والاجر والربح والريع، كل حسب مساهمته في العملية الإنتاجية، فإذا كان النص الدستوري يقصد ذلك، فكان يتعين عليه أن يذكر عاملي الإنتاج الاخرين أي الإدارة والأرض وأن هذا العناصر الأربعة تتحملها تكاليف العملية الإنتاجية وليس التنمية كما جاء بالنص، هذا هو ظاهر الفهم الكامل حسن النية لهذه العبارة، واستطرادا في حكم النوايا الطيبة يصبح لا داعي مطلقا لتضمين مبادئ علم الاقتصاد بالدستور. لكن ربما يكون المقصود شيئا آخر مدسوس علي غرار "جنود العسل" قد يتوارد إلي الذهن أن المقصود هو استبدال أحد أدوات التمويل لرأس المال متمثلا في الاقراض بأن يقتصر هذا التمويل علي عملية المشاركة فقط، وذلك حتي ننأي عن التعامل بالربا، والذي يقصد به العائد علي قروض التمويل المصرفي، والذي يمثل هذا النوع وحده من التمويل نحو 95% من إجمالي التمويل الذي تضخه البنوك في شرايين الاقتصاد القومي. وبعيدا عن الدخول في قضايا فقهية واسعة تخرجنا عن سياق الموضوع ونظرا لأن مصادر التمويل المتاحة حاليا منها من يعمل من خلال المشاركة دون تحديد سعر محدد ثابت، ومنها من يعمل بالسعر المحدد مسبقا، وأن هناك حرية الاختيار فإنه من الأفضل عدم الانصياع لتسلط رؤية محل جدل، وحذف تلك العبارة التي من المؤكد أن تحدث ارتباكا وضررا بليغين للاقتصاد القومي. ونخلص من ذلك إلي أنه يمكن عرض صياغة هذه المادة علي النحو التالي: "يهدف الاقتصاد القومي إلي تحقيق التنمية المطردة الشاملة، ومكافحة الفقر والبطالة وزيادة الدخل القومي، وتعمل خطة التنمية علي إقامة العدالة الاجتماعية وحماية حقوق المستهلك ومحاربة الاحتكار والمحافظة علي حقوق العاملين، ويجب ضمان حد مناسب للأجور والمعاشات يكفل حياة كريمة لكل مواطن. ** ومازالنا مع المواد التي قدمت تحت فصل المقومات الاقتصادية وتدعو للمداخلة والتنقيب بين سطورها، ونقف عند المادة "24" وقد جاء نصها علي النحو التالي: "الملكية الخاصة مصونة، تؤدي وظيفتها الاجتماعية في خدمة الاقتصاد الوطني دون انحراف أو احتكار وحق الارث فيها مكفول ولا يجوز فرض الحراسة عليها إلا في الأحوال المبينة في القانون، وبحكم قضائي، ولا تنزع إلا للمنفعة العامة، ومقابل تعويض عادل يدفع مقدما، وذلك كله وفقا لما ينظمه القانون". ولعل من المسلمات البديهية في هذا الأمر أن الانحراف أو الاحتكار إنما ينشأ ويجد مرتعا خصبا أثناء ممارسة النشاط الاقتصادي الحر كأحد الانحرافات التي تخلقها شراهة وأنانية الجانب السلبي من اقتصاد السوق، وليس عند القيام بدور اجتماعي لا يهدف من ورائه لتحقيق أي ربح وبالتالي يصبح التنبية والتحذير واجبا من الوقوع في مغبة الاحتكار أو أي ممارسة خاطئة أخري مثل الغش والتدليس عند قيام الملكية الخاصة الفردية بممارسة وظيفتها الاقتصادية وليس وظيفتها الاجتماعية، ومن هنا وخروجا من هذا القصور لحقيقة الفهم الاقتصادي لهذا المضمون، فقد يكون من الأهمية إعادة صياغة هذه المادة علي النحو التالي: "الملكية الخاصة مصونة، ولها وظيفة اجتماعية تشجع عليها الدولة، بجانب دورها الأساسي في خدمة الاقتصاد القومي دون أي انحراف يوجب المساءلة القانونية ولا يجوز فرض الحراسة عليها.. إلخ المادة". ** ونأتي إلي مادة مهمة للغاية وهي المادة "26" حيث جاء نصها كاملا علي النحو التالي: "العدالة الاجتماعية أساس الضرائب وغيرها من التكاليف المالية العامة، ولا يكون إنشاء الضرائب العامة ولا تعديلها ولا إلغاؤها إلا بقانون ولا يعفي أحد من أدائها في غير الأحوال المبينة في القانون ولا يجوز تكليف أحد بأداء غير ذلك من الضرائب والرسوم إلا في حدود القانون". والرأي الذي نورده هنا هو فيما يختص بالفقرة الأولي من هذه المادة، فقد ذكرت أن أساس تحصيل الضرائب إنما يقوم علي مبدأ العدالة الاجتماعية، وهذا أمر متفق عليه إلا أنه لم يتعرض لأسس مسارات انفاقها وبما يتفق أيضا مع الاحتياجات الاجتماعية فضلا عن المتطلبات الأمنية للداخل والخارج. فأحيانا كثيرة نفاجأ بشطحات انفاقية لا تلبي الاحتياجات الأكثر ضرورة وأهمية للشرائح الأدني من المجتمع، سواء كان ذلك من حيث التوقيت أو الهدف أو الحاجة الملحة، مما قد يدخل هذا النوع من الانفاق تحت شبهة عدم الرشادة في إدارة المال العام في أقل تقدير. وعلي هذا الأساس يمكن صياغة الفقرة الأولي من النص علي النحو التالي: "العدالة الاجتماعية أساس تحصيل الضرائب وغيرها من التكاليف المالية العامة، وتتحدد أولوية مسارات انفاقها طبقا لمتطلبات التنمية الاجتماعية والأمنية والاقتصادية لابناء الشعب، ولا يكون إنشاء الضرائب العامة.. الخ المادة". وإذا كان المأمول أن نجد نحن من سيقومون بالاستفتاء علي مشروع هذا الدستور المعروض علينا الوقت المعقول للتباحث وابداء الرأي فيما نريده لمستقبلنا، فإن ما شاب تقديم مشروع دستور الأمة من شوائب تمثلت في الهرولة غير المسبوقة أو المبررة من جانب اللجنة وهي تعلن الانتهاء من وضع المسودة تحسبا لما قد يصدر من حكم قانوني في غضون ساعات لاحقة يقضي بعدم مشروعيتها في وضع مشروع هذا الدستور، مما قد يغرس بذور الشك والربية في وجدان وعقول الامة تجاه ما أصدرته هذه اللجنة من مواد تؤسس لمستقبل شعب عريق، وما جاء أيضا من صياغات ومضامين لم تجد قبولا لدي ضمير قطاع عريض من الشعب الذي سيستفتي بقلبه قبل عقله، فمن المؤكد أن كل ذلك يدعو إلي التحفظ الشديد علي قبول هذا المشروع.