نصف ساعة في محل "هايبر" كانت كفيلة برفع ضغط دمي إلي درجة أسرعت بعدها بالخروج دون أن اشتري شيئا. تعجبت من جحافل البشر وهي تشتري السمن والسكر واللحوم والفراخ وكل ما يمكن تخيله من أنواع الجبن وألوان شاسعة من الاطعمة، وكنت ذاهبا لشراء سمكة واحدة لغذائي أنا وزوجتي. تخليت كل تلك الاطنان من الاطعمة وهي تتحول إلي دهون غير قابلة للذوبان في الشرايين وتصيب أصحابها بتلك الجريمة التي نرتكبها ضد أنفسنا وهي جريمة عدم معرفة ماذا نأكل كي نستمتع بالحياة. ترحمت علي صديقي الراحل الكبير يوسف صبري أبوطالب، فقد حضرت معه مؤتمرا في انقرة للمدن الإسلامية وكانت الجلسات طويلة وثقيلة في مناقشاتها، وخرجنا من الجلسة وكنت جائعا إلي ما فوق الخيال، لاجد مائدة عليها ما لذ وطاب من الطعام التركي بكل أناقته ودسامته وحالة التقنن غير العادية في صناعة المحشي واللحم المشوي، والطواجن المسبكة. هنا قلت ليوسف صبري أبو طالب: "سأكل حتي أشبع جوعي وامتليء ولن أحضر جلسات المساء". قال الرجل بحكمته وبساطته: "تذكر أنك لا تأكل الطعام، ولكن الطعام الذي تأكله فوق احتياجك هو الذي يأكل عمر الإنسان". وتذكرت يومها جملة كنت أقرأها علي جدران الوحدة الصحية المدرسية "ان نوبة حموضة واحدة تختصر من عمر الإنسان ساعة أو ساعتين، فتوقف عن مليء معدتك". ونظرت إلي علب المسلي الصناعي المهدرج التي يقبل عليها الجمهور بجنون، علي الرغم من أنها واحدة من أسباب تصلب الشرايين. وبحثت عن سبب لهذا الإقبال الهائل من المشترين، ولم أجد سوي سبب واحد هو رخص ثمنها كما أن كبار النجوم المحبوبين يقومون بإعلانات عنها في الفواصل بين المسلسلات. وتدعي الإعلانات أن الطبخ بالمسلي المهدرج يعطي الطعام نكهة هائلة. وأعلم أن دول الاتحاد الأوروبي تمنع انتاج وبيع تلك الانواع من المسلي، لا لشيء إلا لأن صحة الانسان تأتي في المرتبة الأولي. تذكرت أن حضارة المياه الغازية تغزونا بعنف ومعها أطعمة الشارع التي توصف بأنها الاطعمة "الزبالة". همست لنفسي: "عندما تصاب المجتمعات بحالة افتقاد الثقة في الأسعار والثقة بالنفس تصاب المجتمعات بهوس الطعام". ارتفع ضغط دمي فسألتني زوجتي "ألا تريد للناس أن ترحب برمضان وموائده؟ "أجبتها": أعلم أن الكروب هي التي تقصف العمر، وأعلم أيضا أن السباحة في بحر الاطعمة يوجع الحياة نفسها ويقصفها، ولن يقبل أحد مني فكرة أرددها منذ سنوات بعيدة، وهي أن نرصد ما نقيم به موائد الرحمن إلي تحسين المدارس أو إنشاء جامعات أهلية بمصاريف مقبولة، فهذا أكثر فائدة من انحسار معني الشهر الكريم في دوامة الطعام. ففي شهر رمضان الذي نزل فيه القرآن وهو شهر الحث علي العلم وتحسين جودة الحياة ولا يمكن أن نقابله بما يجعل العقل غائبا في أصناف الطعام أو دعوة الغير إلي موائد الرحمن، فعندما نجعل عطر رمضان يزدهر طوال العام بالعلم، فهذا أكثر بركة من الطواجن والمحشي والمحمر والمشمر". قالت زوجتي "هذا كلام مثقفين.. هيا بنا إلي خارج المحل لأن عيونك تبدو زائغة من ضجيج الزحام".