واحدة بعد أخري قامت حكومات دول منطقة اليورو خلال الفترة الأخيرة باعداد مزيج من خطط التقشف التي تستهدف طمأنة أسواق السندات المتقلبة وإعادة الاستقرار اليها، فبعد اليونان جاءت اسبانيا والبرتغال وأيرلندا وإيطاليا وحتي ألمانيا التي تتمتع بالقدرة علي الدفع كشفت هي الأخري عن خطة للتوفير، وكذلك بريطانيا أعلنت برغم انها ليست عضوا في منطقة اليورو عن ميزانية طوارئ تقشفية يوم 22 يونية الماضي، وبقيت فرنسا هي القوة الاقتصادية الأوروبية الكبري الوحيدة التي ترفض أن تضع لنفسها خطة تقشف علي الرغم من أنها تحتاج بشدة إلي مثل هذه الخطة. وتقول مجلة "الايكونوميست" إن الحكومة الفرنسية تعتقد أن لديها برنامجا لضبط مالياتها العامة من دون اللجوء إلي سياسات التقشف، ففي يوم 16 يونية الماضي كشفت النقاب عن اصلاح نظام المعاشات الذي كان منتظرا منذ فترة طويلة وهو إصلاح يقضي بزيادة سن التقاعد من 60 سنة ليصبح 62 سنة بحلول عام ،2018 وأن هذه الخطوة ستقضي علي نصف العجز الذي يعاني من نظام المعاشات الحكومي أو أقل قليلا من النصف وأن ذلك سيحدث مع حلول عام 2020 ومعروف أن عجز نظام المعاشات الحكومي الفرنسي يبلغ 45 مليار يورو "55 مليار دولار"، وفي العام القادم سيزيد الحد الأقصي للضريبة علي الدخول الكبيرة ليصبح 41% بعد أن كان 40% فقط كما ستزيد أيضا الضريبة علي التحويلات المالية، وإلي جانب ذلك فإن نسبة مساهمة موظفي الحكومة في معاشاتهم ستزيد من 8،1% حاليا لتصبح 10،5% من الأجر الشهري مع حلول عام 2020. ولا أحد ينكر أن هذا البرنامج قد أوضح أسلوب فرنسا الطويل الأجل لعلاج عجزها المالي علي الرغم من أن إجراءاته ستواجه مقاومة من المعنيين بها بل إن مارتن أو بري زعيمة المعارضة الاشتراكية وهي شخصيا في الستين من عمرها وعدت أن تخفض سن المعاش لا أن تزيده إذا ما جري انتخابها لرئاسة فرنسا في الدورة القادمة، كذلك نفذت النقابات اضرابا عاما ضد هذه الإجراءات يوم 24 يونية، أضف إلي ذلك أن تلك الإجراءات لن يكون لها علي المدي القصير سوي أثر محدود علي علاج عجز الموازنة الفرنسية ولكن سن المعاش الفرنسي حتي بعد زيادته علي المدي الطويل سيظل أقل من سن المعاش الذي فرضته اليونان علي موظفيها، وعندما أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن خطة تقشف لخفض الانفاق بمقدار 80 مليار يورو مع حلول عام 2014 قال رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيلون إن بلاده ستخفض الانفاق 100 مليار يورو مع حلول عام 2013 ولكن هذا ليس فيه أي جديد حيث إن فرنسا لها الالتزام بإجراء هذا الخفض حتي يمكن الهبوط بعجز الموازنة من 8% حاليا ليصبح 3% فقط بحلول العام المذكر سلفا، ومعروف أن قوانين منطقة اليورو لا تسمح للدول الأعضاء بزيادة عجز الموازنة عن 3% من إجمالي الناتج المحلي أي أن الأمر لا يعدو أن يكون خطوة لإعادة الأمور إلي نصابها الطبيعي. وقد أدعي رئيس الوزراء الفرنسي أن النمو المتوقع في إجمالي الناتج المحلي هذا العام وما بعده سيتولي اصلاح أو علاج ما تبقي من عجز، ولكن بفرض حدوث هذا كله بنجاح فإنه ستبقي هناك 50 مليار يورو زيادة في الانفاق والرجل يأمل أن يسترد 5 مليارات يورو منها عن طريق الغاء بعض الاعفاءات الضريبية ويقول انه سيجمد ميزانية عام 2011 من حيث قيمتها الحقيقية وأن هناك وفورات أخري ستأتي من خطته القديمة لإحلال نصف العاملين الحكوميين المحالين إلي المعاش سنويا بدلا من إحلالهم جميعا كما كان الأمر يجري من قبل وانه سيمكن عن السماح للوزراء بالجمع بين المعاش والأجر في آن واحد ومع ذلك فسيظل هناك عجز لا أحد يعرف كيف سيجري علاجه ولذلك يقول لورنس بون الخبير الاقتصادي في باركليز كابيتال بباريس إن فرنسا هي الدولة الوحيدة الآن التي لم تضع خططا محددة ومعلنة لخفض أو علاج العجز المالي علاجا كاملا. وتتساءل مجلة "الايكونوميست" محقة عن سبب هذا الموقف الفرنسي؟ وهناك تفسير ينطوي علي درجة من الكرم يقول إن فرنسا تشك في مدي جدوي ومعقولية خطط التقشف المتعجلة، فقبل أن تلعن ألمانيا قرارها الأخير بخفض الانفاق اتهمت كريستين لاجارديه وزيرة مالية فرنسا الألمان بأنهم لا يفعلون ما يكفي لتحفيز الطلب وقال وزير فرنسي آخر إن خطط التقشف تهدد بقتل فرص النمو الاقتصادي أما رئيس الوزراء فيلون نفسه فقد قال إن المسافة بين فرنسا وبين إقدامها علي وضع خطة تقشف لاتزال بعيدة. ولكن هناك سببا آخر أجدر - ولو ظاهريا - بالتصديق وهو أن الحكومة الفرنسية ينتابها قلق شديد من عواقب مصارحة الناخبين بالحاجة إلي تخفيضات عميقة في الانفاق ناهيك طبعا عن تنفيذ هذا الخفض قبل عامين فقد من موعد انتخابات الرئاسة القادمة في ربيع ،2012 أن كلمة