في صيف واحد من الأيام القديمة، غمرتني الدهشة إلي حد الضحك وأنا أسمع الحوار التليفوني بين الراحل حمدي عاشور محافظ الإسكندرية في أواسط الستينيات وبين أمين هويدي وكان يشغل أيامهامنصب وزير الإرشاد القومي. كان حمدي عاشور يبلغ أمين هويدي بأن الرئيس عبدالناصر يطلب تواجده بالإسكندرية في أغسطس وسبتمبر حيث تعود الرئيس عبدالناصر أن يقضي هذين الشهرين بالإسكندرية. وقال حمدي عاشور "لن استطيع إبلاغ الرئيس عبدالناصر باعتذارك عن التواجد، وسوف أخصص لك كابينة في المنتزه تكفي إقامتك أنت والأسرة بأربعمائة جنيه في العام. وعرفت أن أمين هويدي رفض استئجار الكابينة لضيق ذات اليد، فالزوجة مريضة، وهو لا يملك سوي مرتبه الوزاري الذي لم يزد علي ثلاثمائة جنيه، ولا يسمح لنفسه بأن يأخذ مليما واحدا من المصروفات المخصصة له كوزير، لأن التصييف علي حساب الدولة أمر لا يليق. وأنهي حمدي عاشور الحوار، وقال لي "أمين هويدي متزمت جدا في حكاية المال العام" ومضي إلي ما كان يفعله قبل ذلك. كان حمدي عاشور يفرغ علبة سجائر كنت ليضع محتوياتها في علبة سجائر كيلوباترا. وكان يرقب دهشتي وهو يقول "ماذا أفعل؟ سوف أقابل الرئيس عبدالناصر ظهر اليوم، ولن أجرؤ علي إخراج علبة السجائر الكنت أمامه، فهو يفضل أن ندخن جميعا السجائر الكيلوباترا. أخبرته أنه غير مضطر لخداع جمال عبدالناصر بتلك الطريقة، لأن العديد من الوزراء والمحافظين يدخنون السجائر الأجنبية. ولكن قل لي لماذا يرفض أمين هويدي كابينة في المنتزه بأربعمائة جنيه؟. وجاءت لي الإجابة بعد ظهر ذلك اليوم القديم حيث التقيت بالسيد محمد زغلول كامل المسئول عن جزء سري وهام من أعمال مكتب الرئيس جمال عبدالناصر، وسألته عن سر رفض أمين هويدي للكابينة فقال لي "قد وافق بشرط أن تكون الكابينة باسم منصب الوزير، وأن يصدر بها قرار من الرئيس عبدالناصر نفسه فهو يكره تماما تجارة البعض بتلك الكبائن، ويحتقر قضاء ليلة واحدة في موقع ما دون سبب حقيقي، أما قضاء صيف طويل علي حساب الدولة فهذا مرفوض. ولم يكن أمين هويدي متزمتا في التقتير علي نفسه من المال العام، ولكنه كان دقيق النظر بعمق إلي التفاصيل في أي عمل. ولا أدل علي ذلك من عملية اصطياد الحفار الذي أرادت به إسرائيل أن تستخرج البترول من البحر الأحمر أمام الشواطئ المصرية إبان احتلالها لسيناء فقام فريق عمل بتفجير الحفار علي السواحل الأفريقية. كان الرجل عالما ومتعلما، ويملك صفات المدرس الذي يعيد الشرح مرة ومرات، إلي الدرجة التي وصفه فيها الرئيس عبدالناصر أمين يتكلم دائما وكأن أمامه سبورة وفي يده أصبع طباشير. ومعارك الحياة السياسية في حقبة جمال عبدالناصر تلخصها مجموعة مؤلفات أمين هويدي بأمانة لا نظير لها. رحم الله الرجل، فقد أخذ القليل وأعطي الوطن كل عمره.