ليس هناك مفر من غسيل النفس عبر مشاهدة معارض الفن التشكيلي، هكذا أحدث نفسي مع أي مشكلة تقابلني وتستطيع الفنون الجميلة وحدها هي القادرة علي إعادة ترتيب أعماقي، وطبعا هناك شرط هو أن يكون المصور الرسام قادرا علي التعبير عن نفسه غير غارق في لعبة دلق الألوان، ثم الحديث المنفعل عما في لوحته من أسرار، وغالبا عندما تفتقد اللوحات موسيقاها التي تبوح بها للعين، أجد نفسي في حالة زهق، متسائلا لماذا أرهق هذا الفنان نفسه إلي درجة دفع ثمن براويز لهذا الذي رسمه؟ والغريب أن بعضا من المقتنين يقومون بشراء بعض من تلك اللوحات التي لا تساوي ثمن ألوانها، ولا أقصد بذلك بعضا من مصوري الفنون المعاصرة، ولكني أقصد أيضا بعضا ممن تزدحم معارضهم بالمشاهدين، لأنهم يرسمون الواقع بعيون الكاميرا لا بعيون القلب. ودائما أبدأ بصالة عرض بيكاسو لأسباب كثيرة أولها ان ابراهيم بيكاسو هو ابن بلد يستطيع أن يزن بمشاعره أعتاها لوحة من لوح فناني الكون، فضلا عن ذوق شديد الخصوصية في تصميم إطارات اللوحات، فكما أبدع فنان ما في رسم لوحته، فإبراهيم يقابل هذا الإبداع بما يبرزه. وفوجئت بوجود معرض جماعي له قائد اسمه منير اسكندر، واندهشت من براعة هذا الفنان الذي تبدو لوحاته وكأنها قابلتني من قبل، فهو يعيش بألوانه بين نموذجين للإبداع الفصيح، هما الراحل الرائع جمال كامل، وقرينه صبري راغب، فكل منهما كان فنانا مصورا للوجوه بطريقة شديدة التلقائية وفي نفس الوقت لا توغل في التغريب وكانت أغلفه جمال كامل لمجلة صباح الخير شاهدا علي ذلك، وأيضا كانت أغلفة صبري راغب. ومنذ أن رحل كل منهما، صرنا نفتقد المبدع الرصين الفصيح الذي يرسم من ملامح من أمامه مباشرة دون نقل من صورة، وتلك من أصعب الأمور علي أغلب المصورين الفنانين. ويمكنك أن تخمن أن منير اسكندر قد عاش قاهرة وحواري الخمسينيات والستينيات من مجرد رؤية بورتيه لرجل يدخن الجوزة، حيث يبدو الوجه وكأنه يزيح عن قلبه كل هموم الحياة وهو يسحب أنفاس الدخان من قطعة البوص الموصولة بالجوزة، وتري تقاسيم الوجه وهي تعبر عن مجتمع مرهق لكن له من الأمل ما يعوض ذلك التعب. ولا يمكن لأي مشاهد لتلك اللوحات سوي أن يطلب من السماء أن يهبنا طول عمر لهذا الرجل كي يعلم بعضا ممن يعرفون التواضع كيف يقتحمون الأعماق ويخرجونها دون فذلكة بخصوصية فصيحة خلابة. عميق التحية وصافي الاحترام لهذا الفنان البسيط العميق الفصيح. وطبعا سيقول بعض من مزوري شخصياتهم بادعاء أنهم فنانون معاصرون أني أنحاز لفن صار قديما وأقول: ليس هناك قديم أو جديد في الفن، بل هناك أصالة وشخصية تظهر في اللوحة أو تختفي.. ولا إيه؟