بين طابقي اتيليه القاهرة توزعت لوحات لثلاثة فنانين اتفقوا علي اقامة معارضهم في نفس التوقيت, ورغم تأكيدات ثلاثتهم علي انه لم يحدث بينهم اتفاق علي تيمة واحدة أو موضوع واحد لمعارضهم الا ان الزائر للمعارض الثلاثة لعادل واسيلي فوتوغرافيا ودينا الغريب ميديا مختلطة وسوزان المصري حلي يصعب ألا يلتفت إلي حالة النوستالجيا المسيطرة علي المعارض الثلاثة. في الطابق الاول حيث معرض دينا الغريب تستمر الفنانة في استخدام خامات متنوعة وعناصر وتيمات بسيطة لتقديم حالة من الحنين لقاهرة اخري غير التي نحيا فيها, تنقب دينا الغريب عبر طبقات من كولاج قوامه الاقمشة والالوان والاخشاب وقصاصات الصحف بل وتذاكر الحافلات لتصنع تاريخا حميما,وحاضرا مختلفا للقاهرة المزدحمة, في لوحاتها التي يصعب تبين قطع غالبة عليها أو عناصر بعينها مكونة لها تعيد دينا الغريب بناء العلاقات بين مفردات الحياة اليومية بعد ان تنقلها برمزية لا يشوبها غموض ويمكن للمتلقي ادراكها بسهولة, لتضع علي اللوحة حالة العشوائية التي تؤرقها بعد ان سادت المدينة, فتبدو الالوان متناثرة بلا ضوابط والموجودات مختلطة لا يقف ايها في موضعه الصحيح تقول دينا الغريب: حالة النوستالجيا غير مقصودة فأنا استدعي ما تطرحه ذاكرتي البصرية, قد يخرج هذا في شكل مقارب لمشاهد الحياة اليومية او يخرج خليطا بينهاو بين ذكريات قديمة او تخرج الذكريات خالصة, بشكل عام انا لم اتخذ قرارا بأن تسيطر حالة من الحنين علي المعرض. وتكمل: حالة العشوائية التي صارت فيها المدينة يصعب تجاهلها لكن التعبير عنها في المعرض كذلك جاء غير مقصود, فالقاهرة كمدينة ليس بها تاريخ محفوظ, العمارات القديمة الجميلة تحوي محالا تبيع سلعا في غاية العصرية وتتألف ديكوراتها من الوان وتشكيلات تتنافر مع الذوق المعماري للمبني الذي يحويها بحيث تصير عنصر تشويه لهذا التاريخ الجميل, لهذا يخرج عملي في المعرض مشابها لحال المدينة.. طبقات تتجاور وتتصارع وتحاول كل منها السيطرة ليكون النصر للعشوائية وعدم الانتظام. ليست العشوائية وعدم الانتظام وحدهما المسيطران علي اعمال دينا الغريب ففي لوحة من المعرض هناك خريطة لافتة للانتباه ستتوقف امامها طويلا قبل ان تكتشف انها خريطة لمصر قد جزئت وتمت اعادة تركيبها ليصير الشمال وسطا والجنوب شمالا.. الخ, خريطة غير مفهومة ومجافية لما درسته وتعرفه عن جغرافيا مصر وتقسيمها ولكن هل هذا الخلط مجاف للواقع؟!! تطرح دينا الغريب السؤال ولا تكترث لطرح الاجابة بل تحاول من خلال اللوحة دفعك للتفكير معها فيها, تقول: انا لا اسعي لطرح اجابات, فالاسئلة نفسها تبدو غير محددة, العمل الفني يطرح اسئلته واجاباته علي الفنان كما يطرحها علي المتلقي بل إنه احيانا ما تطرح علي العناصر التي اجدها رؤية العمل الفني وتكوينه. وتنفي دينا الغريب ان يكون قد حدث اتفاق بينها وبين واسيلي وسوزان المصري علي استعادة التاريخ والحنين اليه كتيمة في المعارض الثلاثة وتقول: نحن اصدقاء منذ زمن وتجمع بيننا مشتركات عديدة من بينها الحزن علي الجمال والتاريخ المهدر, ورغم ما يبدو من كلامها من فقد للامل, الا انها في لوحاتها ووسط العشوائية المنتشرة تركت مكانا للامل عبربهجة تتضح في الشخوص التي تبدو من حين لآخر في لوحاتها علي قلة وجود البشر فيها. لايختلف هذا كثيرا عن مفهوم عمل فني يتوسط الحلي التي امتلأ بها معرض سوزان المصري فعلي ستار حوي وحدات صغيرة امتلأت بصور لفنانين راحلين واغلفة لروايات وكتب وموتيفات من الفن الفرعوني تركت سوزان المصري مساحة فارغة واسعة علتها جملة نافذة الامل, لهذا ترفض سوزان المصري اختزال عملها في النوستالجيا او الحنين وتقول: العمل يحوي عناصر من حياتنا المعاصرة حتي وان كانت قليلة, هذا البلد زاخر بالقادرين علي العمل والابداع والمساحة الفارغة( نافذة الامل) تنتظر ان تمتليء بصور لآخرين قادرين علي مزيد من العطاء. في القاعة المقابلة لها يحضر الماضي الساكن في قلب الحاضر مهددا بالرحيل عبر صور سجلها الفنان المتميز عادل واسيلي, بدءا من اللوحة الاولي لسيدة عجوز تصعد سلما خارجا من حي شعبي قديم حولها سكون ثقيل ليس في الكون سواها تولي السيدة ظهرها للعدسة وترحل إلي مكان غير معلوم, يبدو الرحيل سمة رئيسية مسيطرة علي معرض عادل واسيلي وهو ما يسجله رافضا بدوره قصر معرضه علي فكرة النوستالجيا قائلا بل هي محاولة للإمساك بالجمال الحاضر قبل ان يرحل ويتلاشي, قضيتي ليس قضية الزمن فالجمال مازال حاضرا ويحمل حياته الخاصة التي تتبدي من عناصره التي سجلتها هذه الصور لكنه جمال مهدد نحرض علي طرده من حياتنا فيستجيب هو منسحبا منها. النوافذ والابواب المغلقة في معظمها تحتل ركنا غير بسيط من معرض واسيلي الممتد في القاعة الكبري في الطابق الثاني من الاتيليه, يشير اليها واسيلي قائلا هذه الاشياء جمالها حاضر حتي لو هجرها سكانها أو صنعوا منها وسيلة للانفصال عن العالم في الخارج فسكان ما داخل هذه الابواب والنوافذ ينتمون لزمن آخر وحالة اخري لا يلتفت اليها عالمنا ولا مدينتنا. اغلب الوجوه في معرض واسيلي وجوه لكبار السن يقول عادل واسيلي هم مسيطرون في حضورهم علي المعرض لانهم ابطال هذه الحالة المنسحبة بينما نحن مجرد مشاهدين لها مسهمين في تدميرها لهذا صار وجودهم وحضورهم وسط حالتهم ضروريا فهم صناع هذه الحياة والقابضين عليها. يحرص عادل واسيلي علي كسر فكرة النوستالجيا عبر كسر فكرة انتظام الزمن ففي لوحتين متجاورتين(40 و41) رجل عجوز امام متجره يقف قد اغلق المتجر وتأهب للرحيل وفي اللوحة التالية يجلس الرجل امام المتجر المفتوح, يقول واسيلي: الترتيب مقصود ليحدث التساؤل لدي الملتقي وتبرز لديه فكرة الرحيل بمعزل عن فكرة الزمن, فالرحيل و نزف الجمال هو همي في هذا المعرض وهو ما ابغي من المشاهد ان يفكر فيه.