سرت مؤخرا محاولات لرأب الصدع العربي والسعي نحو المصالحة، بيد أن هذا كله بدا وكأنه يدور في فراغ، فالمضمون الحقيقي لا وجود له، والدول العربية مضطرة إلي القيام بذلك لكي تظهر بمظهر الجادة في مصالحة حقيقية، بيد أن أي مراقب لأداء زعمائها يشتم في التو الوضع الحقيقي لمواقفهم، وهنا قد يثار التساؤل: هل يمكن للإنسان أن يخدع نفسه؟ نعم أحيانا خاصة إذا كان الزعيم يريد أن يثبت أن كل الأوراق في يده إذا شاء قاطع وإذا شاء صالح وسار علي درب الوفاق. ** مصالحة بروتوكولية..! المقدمة سالفة الذكر استدعتها قمة الرياض المصغرة التي عقدت في 11 مارس الحالي وضمت عاهل السعودية والرئيس المصري والرئيس السوري وأمير دولة الكويت، أما اللافتة التي عقدت تحتها هذه القمة فهي تنقية الأجواء العربية قبيل عقد القمة العربية في الدوحة نهاية مارس الحالي، جاء اللقاء بعد تراكمات من الخلاف بين محورين صنفتهما الإدارة الأمريكية السابقة، محور المعتدلين ومحور الممانعين، وكانت محاولة إصلاح ذات البين قد جرت في قمة الكويت الاقتصادية - 19 يناير 2009 - علي اثر خطاب عاهل السعودية الذي دعا يومها الجميع إلي نبذ الخلاف والسعي نحو المصالحة، بيد أن المحاولة باءت بالفشل فلم يرق الموقف إلي مصالحة حقيقية وإنما كانت أشبه ما تكون بمصالحة بروتوكولية. ** انفتاح علي سوريا استمرت السعودية في مسعاها بهدف تنقية الأجواء مع سوريا وبالفعل جرت اتصالات في أعقاب قمة الكويت وبدأ الانفتاح علي سوريا بزيارة رئيس الاستخبارات السعودي إلي دمشق.. وتلاه "سعود الفيصل" وزير الخارجية ردا علي زيارة نظيره وليد المعلم، وظهرت الصورة جادة في التوجه نحو علاقات وثيقة بعد التوتر الذي شابها لسنوات منذ اغتيال "رفيق الحريري"، والذي تعمق مع العدوان الإسرائيلي علي لبنان سنة 2006. ** المصالحة من أجل هدف في مرحلة متقدمة بذلت السعودية جهدا مضاعفا من أجل إقناع مصر بتبني نهج المصالحة مع سوريا سعيا لاستعادة المحور الثلاثي الذي يعد ركيزة للعمل العربي المشترك بين الدول الثلاثة والذي ظهر ثقله في قمة الإسكندرية في نوفمبر ،1994 غير أن كل التحركات التي قامت بها السعودية توطئة لقمة الرياض المصغرة التي ضمت مصر - وهي أحد الأضلاع الثلاثة - كانت تتمحور حول هدف واحد ألا وهو استقطاب سوريا وجذبها إلي محور المعتدلين بحيث تنأي بنفسها بعيدا عن إيران التي صورتها دول عربية بوصفها التحدي الأساسي في المنطقة والخطر الأعظم الذي يهدد الدول العربية خاصة دول الخليج - ولا غرابة فمحور الاعتدال مازال حريصا علي اقتفاء أثر الإدارة الأمريكية، السابقة في تصنيفها لإيران كفزاعة تشكل الخطر الأكبر علي الأمة العربية وعلي المنطقة وبالتالي كان لابد لكل طرف أن يأخذ حذره منها. ** تناقض واضح..!! الغريب أن مصر التي جاءت إلي قمة الرياض بهدف طي صفحة الماضي وتجاوز الخلافات وتنقية الأجواء العربية ما لبثت أن وقعت في تناقض عندما تحفظت علي مشاركة أمير قطر في القمة المذكورة ومن ثم حالت دون مشاركته في القمة، الأمر الذي أثار الدهشة والاستغراب إذ كيف بقمة مصغرة تجتمع بهدف تنقية الأجواء وترطيبها توطئة لقمة عربية تستضيفها الدوحة بينما يجري التحفظ من قبل مصر علي مشاركة أمير قطر في قمة الرياض؟! ألا يشكل هذا تأكيدا للانقسام بل ويشي بأن مصر بذلك قد تقاطع قمة الدوحة مع السعودية فيما لو دعي أحمدي نجاد كمراقب؟. ** انفصام غير وارد.. أيا كان تظل المصالحات روتوشية الطابع وبالتالي لن تؤدي إلي المراد خاصة أنها تجري من أجل تحقيق أهداف طالما سعت إليها السعودية ومصر في السنوات الأخيرة تتمثل في فصم العلاقة بين سوريا وإيران وهو الهدف الذي بدا متعذرا تحقيقه وأن الرهان عليه سيكون خاسرا، فسوريا اليوم لاسيما بعدما حدث للعراق والصومال والسودان لن تغامر بالانفصال عن إيران، فهي لا تتفق مع محور الاعتدال علي أن إيران هي الخطر علي المنطقة. بل علي العكس تؤمن بأن إيران تمثل دعما وعمقا استراتيجيا لها، وتؤمن بوجوب ارساء علاقات صريحة وواضحة معها ومع تركيا كدولتين اقليميتين مساندتين للحق العربي. ** رهان خاسر.. لقد تأكد الآن بأن مصالحة تراهن علي اضعاف التحالف السوري الإيراني لن تنجح، فلقد رأت سوريا كيف أن الدول العربية لا تمد يد العون لدولة في محنة ولا تقل أي شقيق من عثرته، فالمتغطي بالعرب عريان، والعراق يظل نموذجا واضحا أمامها يجعلها تفكر أكثر من مرة قبل أن تقدم علي مغامرة فصم العري مع إيران، فالعراق تعرض للغزو الأمريكي سنة 2003 وبدلا من أن تهرع الدول العربية لنجدته والوقوف إلي جواره سارعت بالوقوف إلي جوار إدارة بوش وشجعتها علي الغزو. بل أمدتها بكل التسهيلات التي جعلت مهمة الغزو مهمة سهلة. المفارقة أن الدول العربية التي تمعن في حشد العمل من أجل عزل إيران والحيلولة دون تمدد نفوذها في المنطقة هي التي ساعدت علي تمدد هذا النفوذ واستشرائه عندما عاونت الاحتلال الأمريكي علي غزو العراق. ** لا يلوم العرب إلا أنفسهم لقد سقطت نظرية الاحتواء المزدوج التي تبنتها الولاياتالمتحدة في التسعينيات من القرن الماضي بدعوي حماية دول الخليج من الخطرين العراقي والإيراني. اليوم تغيرت المعادلة وبات الأمر مختلفا، فالدول العربية بمساعدتها لأمريكا في اسقاط العراق وتدميره علي النحو الذي وصل إليه اليوم قدمت أرض الرافدين علي طبق من ذهب لإيران. وعليه فلا يلوم العرب إلا أنفسهم. أي أن التمدد الإيراني حدث تلقائيا كرد فعل لأداء اليتامي العرب. وبالتالي تظل هناك ضرورة في تبني منهجية واضحة تجاه العلاقة مع إيران وعدم فصمها لاسيما أن إسرائيل تظل هي العدو الرئيسي للعرب ويظل الخطر الصهيوني هو الذي يهدد الأمة. وتظل أمريكا أكبر داعم لإسرائيل بل إن انحيازها لها يبقي كاملا. ** تصحيح بوصلة السياسة العربية واليوم تظهر سوريا علي الساحة معنية بتصحيح بوصلة السياسة العربية وتسليط الضوء علي ما تمثله إسرائيل مع نيتانياهو الذي لا يزمع تقديم أي شيء ملموس علي أرض الواقع فيما يتعلق بعملية السلام، فكل ما يعكسه هو املاء الشروط التي تتعارض مع السيادة الوطنية ومنها دعوته إلي ضرورة فصم سوريا لعلاقاتها مع إيران. يتعين علي العرب جمع الصفوف قبل انعقاد قمة الدوحة شريطة تنفيذ ذلك عمليا علي أرض الواقع، فادراك الأمور شيء واتخاذ موقف علي أساسها شيء آخر.