أي محاولة لإهالة قاذورات علي جمال عبدالناصر هي محاولة فاشلة بكل المعايير، فيكفي أنه في مؤتمر شعبي أخير عقد في قري أسوان أن قالت إحدي الفقيرات "فين بيت عبدالناصر علشان أشكي له؟" ولم تكن تلك المحبة الدافقة في وجه السيدة تعبر عن شيء إلا عن حلمها في أن تجد من يسمع لها، وكانت تتوهم أن جمال عبدالناصر -حتي في أيام حياته- كان يسمع كل المصريين. والحقيقة أنه كان يلمس قلوبهم بعد أن ضمد جراح تلك القلوب بفكرة عن فنون صناعة المستقبل، أخطأ وأصاب، لكنه ظل متمسكا بجوهر أساسي هو حق كل مصري وعربي في حياة لائقة. ويكفي أن مشروع السد العالي قد أقيم في عهده، وهو المشروع الذي قالت عنه جمعية المهندسين الأمريكية من خلال مجلتها الرصينة "إن السد العالي هو أهم مشروع في القرن العشرين بأكمله". وإذا كان الرجل الجليل قد عاش حياته أسير فكرة الأمن، فسبب ذلك هو مسلسل التآمر اللانهائي علي مصر قيادة وشعبا، ولعل فكرة الأمن التي سيطرت عليه هي من أهدتنا قدرا كافيا من القيادات العاجزة عن تحويل أحلام الرجل مع طاقة هذا الشعب إلي الانجاز الذي كان يحلم به جمال عبدالناصر، وتحلم به الجماهير أيضا. ولا تعني كلماتي هذه أي إنكار لجهد من جاء بعده وهو أنور السادات الذي مارس السياسة بمهارة الريفي الذي يعرف حدود قدراته، فهو من علم عبر مجاورته لعبدالناصر أن فكرة العروبة لم تنضج في قلوب شعوب العرب وحكوماتهم، بدليل أن العرب في كل أزمة يريدون من مصر أن تواجهها بمفردها، وفي كل مغنم يمارس بعض من العرب نغمة التعالي وإلقاء التعليمات. وكاتب هذه السطور يعرف حقيقة مفزعة عن حاكم عربي شاب طالبه جمال عبدالناصر أن يدفع تكاليف بعض من الأسلحة التي نحتاجها في حرب الاستنزاف، فطالب بأن نكشف له عن كل الخطط العسكرية وتفاصيل العمليات الحربية. وبطبيعة الحال رفض جمال عبدالناصر، وأسوق ذلك كي أضرب مثالا علي عدم اتساق كثير من القادة العرب مع الكلمات التي تملأ خطبهم النارية. تعلم السادات من كارثة يونية 1967 أن حدود مصر هي رفح شرقا والسلوم غربا ووادي حلفا جنوباً والبحر المتوسط شمالا. وإذا ما أريد لمصر أن تتحمل نيابة عن العرب كوارث العبث وضيق الأفق وعدم الفهم الفعلي لحقائق السياسة العالمية، فليس ذلك في استطاعة أحد، سواء في أيام السادات أو أيام مبارك. وإذا كانت إسرائيل تخطط حاليا لإبادة فكرة القومية العربية عبر طحن فلسطين في غزة وتكوين دولة كرتونية في رام الله، فعلي العرب أن ينتبهوا إلي أن مصر هي القادرة علي بلورة إجهاض حاسم للمشروع الصهيوني عبر التقدم العلمي لو تحمل تكلفته العرب أجمعين. أكتب ذلك تحية لموقظ فكرة العروبة في الوجدان العربي الزعيم الخالد جمال عبدالناصر، لعل العرب ينتبهون إلي أن زمن تحميل مصر أوزار وأثقال الحلم العربي بمفردها لن يعود، ولكن أن نحمل معا أعباء تطوير أنفسنا وأيامنا وكيفية النظر إلي الواقع دون أن يكون بعضنا مجرد قفازات في أيدي أعدائنا فهذا هو المتاح.