لم يكن في استطاعة أحد أكثر من الكاتب الصحفي محمدحسنين هيكل أن يروي القصة الحقيقية لصراع جمال عبدالناصر مع المرض والآلام.. ورغم ذلك فقد احتاج هيكل إلي أربعة أسابيع بعد رحيل عبدالناصر. ليروي - في صراحة- هذه القصة التي عكست وجها نادراً من وجوه قوة وعناء جمال عبدالناصر.. وعمق ايمانه بمسئوليته الكبيرة. في تلك الفترة كان الأطباء قد تأكدوا من خطورة الحالة الصحية للرئيس جمال عبدالناصر واكتشفوا متاعب قلبه.. وانسداد شرايين ساقه.. وأخيراً وافق تحت إلحاح أن يحصل علي اجازة إجبارية لمدة أسبوع في أسوان كما أن الإجازة لم تستمر سوي يوم واحد.. فقد مات عم عبدالناصر.. وركب الرئيس القطار من أسوان إلي الاسكندرية ليقوم بتشييع جنازة عمه. ثم يعود مباشرة إلي القاهرة.. ناسياً أمر الإجازة التي يصر عليها الأطباء! ويكمل هيكل رواية القصة: وجلسنا معه مرة.. وكلنا اعترض علي الطريقة التي يعمل بها.. ما بين خمس عشرة وثماني عشرة ساعة في اليوم. وكان بعض الأطباء معنا.. وقال أحدهم إنه علم من السيد سامي شرف ان الرئيس يسأل عن قائمة الخسائر في الجبهة كل ليلة.. وان هذا السؤال يكون الأخير في عمل النهار والليل. قبل أن ينطفئ النور في غرفة نومه!.. وقال عبدالناصر في بساطة: ولماذ لا أسأل عن ذلك.. أليس طبيعياً أن أعرف؟ وقال الطبيب ولعله الدكتور فايز منصور: ألا يمكن أن تأجل هذا السؤال إلي الصباح؟ قال عبدالناصر: لو أجلته إلي الصباح لما استطعت ان أنام.. سوف أظل أحسب وأخمن طول الليل.. لا أستطيع أن أنام إلا بعد أن أعرف وأطمئن.. ان المدافع وللدبابات لاتهمني ولكن تهمني الخسائر في الناس.. إن الناس شيء كبير وعزيز. كل جندي وكل ضابط هناك له أسرة.. له زوجة وأولاد وربما له أم وأب مازالا عي قيد الحياة. وبالتأكيد له أقارب وأصدقاء.. لايمكن ان نفكر في الناس بطريقة مجردة.. الناس هم أغلي شيء!
ثم سافر جمال عبدالناصر إلي موسكو المغطاة بالثلوج.. وكان عمله فيها من أعظم الضربات الإستراتيجية وتوقفت غارات العمق. يقول هيكل: وتحمس الرئيس عبدالناصر لفكرة عقد اجتماع في ليبيا علي أساس الطرح القومي للمعركة استجابة لنداء معمر القذافي وكانت محبته له غلابة وكان يرقب حركته السرية واندفاعه القوي. ويسمعه أحياناً وهو يخطب. ويقول له في محبة: معمر.. انت تذكرني بشبابي!.. وتلقي مشروع روجرز وهو في ليبيا وفكر فيه طويلاً.. وكان اتجاهه إلي قبول التحدي وانتظار نتيجته. وسافر إلي موسكو بعد ذلك في زيارة رسمية. وجاءه الدكتور »شازوف« يرجوه فور الانتهاء من محادثاته أن يذهب إلي مصحة »بربيني« لإجراء كشف شامل جديد عليه. وقال له شازوف: إنني أفزع حين أتابع برنامج عملك وزياراتك! وتم الكشف الشامل عليه في »برببني«.. وجاء شازوف.. ومعه الدكتور فلادمير. يقولان له: من الضروري أن يبقي الرئيس هنا شهراً! ثم ذهب شازوف إلي الرئيس برجينيف يرجوه الإلحاح علي الرئيس بالبقاء.. واقتنع عبدالناصر.. وذلك بعد أن رأي تقارير الفحص. وعده بأسبوعين فقط.. وقال لشازوف: إنني مضطر للعودة من أجل المؤتمر القومي لابد ان أكون في مصر قبل 02 يوليو. وعاد إلي مصر.. عاد إلي معركة من أعنف المعارك: وقف امام المؤتمر القومي يتكلم ويقبل مشروع روجرز لأسباب قدرها وحسب حساباتها. وأحس أن هناك تساؤلات مطروحة في العالم العربي.. وقرر أن يجلس في اليوم التالي أمام المؤتمر لمناقشة مفتوحة تذاع علي الراديو والتليفزيون! ثم جلس إلي المؤتمر في اجتماع سري.. أوضح فيه كل الخطط والحقائق بصراحة كاملة.. ومضت الحوادث وهو لايتوقف.. وانفعالاته تلاحق جهده.. فقد كان يعمل بكل مشاعره. وبدأ يحس بالإرهاق يضغط عليه.. وبالآلام تشتد.. وقرر أن يذهب إلي مرسي مطروح.. في إجازة لأسبوع كامل.. واتفقنا ان لايتصل به أحد.. مهما كانت الظروف! ويقول هيكل في نهاية الحكاية الحزينة: لكن الأزمة في الأردن انفجرت.. وبقي الكل متردداً في الاتصال به هناك. أول أيام الأزمة. لكنه عند المساء كان قد سمع من الإذاعات بما يجري. واتصل هو! وطلب موافاته أولاً بأول بالتفاصيل.. وجاءه معمر القذافي في اليوم التالي! مرسي مطروح. ونقلت إليه بالتليفون عدة رسائل جاءته من ياسر عرفات. وقرر أن يبعث الفريق صادق إلي عمان. برسالة منه إلي الملك. ثم انضم إليه في الرسالة الثانية إلي الملك . معمر القذافي وجعفر النميري. وعاد إلي القاهرة من مرسي مطروح. وكان المؤتمر الكبير الذي التقي فيه ملوك ورؤساء الدول العربية لبحث أزمة الأردن علي وشك أن ينعقد. ومن سيارته علي الطريق الزراعي بين الاسكندريةوالقاهرة. كان التليفون في يده. وكان يرتب للاجتماع. وكل اطباؤه جميعاً في حالة ثورة كاملة! وكانت كلمتهم له بالاجماع تقريباً: إن الأمور لايمكن ان تستمر علي هذا النحو. وحين نقل إليه الدكتور الصاوي رأيهم. وانه يوافقهم في غرفته بفندق الهيلتون. الذي كان مقراً للاجتماع الكبير. وكان رده بغضب: ماذا تقولون؟ في كل دقيقة يمكن أن يقتل عشرات من الرجال والنساء والأطفال في عمان. ألاترون أننا في سباق مع الزمن؟! ولايملك هيكل وهو الكاتب الذي تعود علي أن تكون كلماته موضوعية تخاطب العقل قبل المشاعر إلا أن يخضع لتأثير مشاعره الغارقة في الحزن لرحيل جمال عبدالناصر. في النهاية.. وبكلمات أقرب إلي الدموع يختم هيكل حكاية رحيل عبدالناصر باكياً أو قائلاً: »رباه« كأنه كان يعرف! كنا بالفعل في سباق مع الموت! لماذا عجزت عن التصديق والتصور إذن أياماً بعد الرحيل؟. وكيف لم أصدق وكنت من شهود ملحمته الرائعة في الصراع مع الألم؟! وكيف وقد كنت واحداً من الذين وقفوا بجوار فراشه لحظة الرحيل؟! لا أعرف. ثم أذكره وهو يقول مرات عديدة.. أثناء مناقشات طويلة كانت تجري بيننا. انت تؤمن بالعقل أكثر مما ينبغي.. في بعض الأحيان هناك أشياء لابد ان نأخذها كما هي.. ببساطة وبغير ان نعقدها.. هناك اسئلة بدون جواب.. وستبقي دائماً بدون جواب!. وكنت صادقاً يامعلمنا!
ولعل هذا المقال لهيكل عن رحيل عبدالناصر سيبقي هو الآخر.. أكثر كلمات هيكل قرباً إلي نفسه وقلبه ووجدانه! قال هيكل: ان التاريخ فوق مشاعر الأفراد! وكذا التاريخ أيضاً ليس الأحداث.. وانما هم الناس الذين يصنعون هذه الأحداث! وفي بداية هذا المقال التاريخي قال هيكل عن عبدالناصر : انه بكل عظمته لم يصنع مصر.. ولكن مصر بكل عظمتها هي التي صنعته ولو ولد في غير مصر لما ظهر.. ولو ظهر في غير مصر ما استطاع. دوره البطولي كله جزء من قدرها التاريخي.. ان دور البطل ظل مرة مؤقتة في التاريخ ويجب أن يكون كذلك.. لأن الأصل والأساس. الباقي والخالد. هو الشعب. وان يكون دور البطل ظاهرة مؤقتة في التاريخ فذلك مما يعني انه صدفة وإنما البطل في الأمة الحية ظاهرة طبيعية. وان لم تكن كظواهر الشروق والغروب كل يوم! إن البطل إنسان تتسع همته لآمال أمته.. وهي في فترة خطر.. تستودعه كل سرها.. وتعطيه كل طاقتها. لكي يتقدم باسمها.. ويواجه ويزيح ويقتحم. وهي بعد الخطر سترد سردها.. وتأخذ طاقتها.. لأن مسيرتها تصبح بالضرورة اعرض من دور البطل.. وكأن البطل في التاريخ جسر عبور لأمته.. من القلق إلي الشجاعة.. من الحيرة إلي التقدم.. مما كان إلي ما يجب أن يكون.. أو في اتجاه علي الأقل.. وقد يقال انه كان في دور جمال عبدالناصر قيمة.. كلنا نتمني من الله ان يتركه بيننا قد يقود زمن التحرير ويشهد يومه. ثم نتذكر ان جمال عبدالناصر أدي في الحقيقة.. كل دوره أو معظمه. وعندما نسأل أنفسنا: ما الدور الذي حققه عبدالناصر؟ فإننا يجب ان نتشرف أنفاً واسعاً.. ذلك ان المعركة التي نخوضها الآن.. أزمة سوف تمر.. وحدتها في وجداننا تجيء من أننا مازلنا فيها.. لكنها سوف تمضي. كما مضت قبلها الأزمات في تاريخ الأمم الحية. ودور عبدالناصر عندما نتشرف الأفق الواسع.. يتجاوزها في الحقيقة. ان هناك انجازين بارزين في دور جمال عبدالناصر .. من وجهة نظر الحكمة العامة للتاريخ. اولهما : انه وصل مصر بأمتها العربية. ثانيهما: انه وصل أمته العربية بالعالم وبمصر.. هذا ببساطة.. هو دوره.. وتحته تندرج كل التفاصيل.. وتتعدد معارك الحرية لم تتوقف يوماً قبل رحيله. ولا أظنها سوف تتوقف بعد الرحيل! بعد ان ألقي أنور السادات بيان رحيل جمال عبدالناصر في الإذاعة.. كان أبوعودة وزير الإعلام والثقافة الأردني في مكتبه في عمان. وسمع الخبر بنفسه.. فأسرع يرفع سماعة التليفون ويطلب الملك حسين.. قال له: جلالة الملك.. البقاء لله الرئيس جمال عبدالناصر توفي.. وأذاعت القاهرة النبأ. مرت لحظة صمت.. ولايعرف أية تعبيرات ارتسمت علي وجه الملك حسين في تلك اللحظة.. كان قد عاد إلي عمان قبل ساعات قليلة.. في مؤتمر الملوك والرؤساء العرب.. وكان جمال عبدالناصر علي حد قول الأردنيين أنفسهم »أنقذ جلالة الملك في المؤتمر الكبير«. وظل وزير الإعلان الأردني صامتاً علي الناحية الأخري.. وأخيراً رد الملك حسين بصوت متهدج يغلبه الانفعال: يا الله. مات الرجل.. عندما بدأت الأمة العربية تستفيد منه.. في رحمة الله يا جمال!