ليست هذه المرة الأولي التي تتعرض فيها الهند لعمليات إرهابية، فعلي مدار الأعوام الخمسة الماضية كانت شبه القارة الهندية تتعرض بين الحين والآخر لواحدة من هذه العمليات التي تسفر في كل مرة عن عدد يزيد أو يقل من الضحايا المدنيين والخسائر المادية. لكن العملية الأخيرة التي وقعت يوم الخميس الماضي، وكانت مدينة مومباي، عاصمة المال والاقتصاد الهندية، مسرحا لها تعتبر نقطة تحول خطيرة في هذا السياق. فهذه أكبر العمليات الإرهابية التي تعرضت لها الهند علي الإطلاق، للدرجة التي يمكن معها وصف هذا اليوم الأسود في تاريخ الهند بأنه "11 سبتمبر الهندي"، من حيث أنه يعادل في قسوته وتأثيراته المباشرة وتداعياته غير المباشرة الزلزال الذي تعرضت له الولاياتالمتحدةالأمريكية في ذلك اليوم. وتعتبر عملية مومباي نقلة "نوعية" في العمليات الإرهابية التي استهدفت الهند ليس فقط من حيث حجمها حيث ضربت تسعة مواقع منتقاة بعناية في وقت واحد، وإنما أيضا من حيث التكتيك الذي تم استخدامه فيها، وهو اللجوء إلي الهجوم بالأسلحة النارية بدلا من التفجيرات، فضلا عن أن هذا الهجوم لم يستهدف أي مدنيين، مثلما كان الحال في السابق، بل استهدف "النخبة" بشكل خاص، سواء النخبة الهندية أو نخبة الأجانب الذين يزورون الهند ويقيمون في أفخم فنادق مومباي والهند قاطبة، وهو فندق "تاج محل". وباستمرار الهجوم ساعات ليس قصيرة، اشتملت علي احتجاز رهائن من جنسيات مختلفة، ضمن الإرهابيون جذب اهتمام العالم بأسره، الذي تابع هذه التطورات الدراماتيكية وهو يحبس أنفاسه. وكانت محصلة ذلك كله أن هذه العملية الأخيرة قد حظت باهتمام عالمي غير مسبوق، ومست عصبا دوليا بالغ الحساسية في لحظة حرجة جدا في تاريخ الهند، حيث تسابق الأمن ليتبوأ مكانة - تستحقها - كقوة إقليمية عظمي وكلاعب رئيسي في المعادلة الدولية الجديدة التي هي في طور التشكيل والتبلور في الوقت الراهن. ورغم تعرض الهند في السابق إلي سلسلة من العمليات الإرهابية، التي استهدفت بنجالور ونيودلهي وحيدر أباد، فإنها استطاعت أن تحافظ علي صورتها الدولية مكان "آمن" للاستثمار. ومع العملية الأخيرة، التي وصلت فيها استغاثات الأجانب الذين شاء حظهم العاثر أن يوجودا في مرمي نيران الإرهابيين وتبادل إطلاق الرصاص بينهم وبين قوات مكافحة الإرهاب الهندية، ومنهم أمريكيون وإرهابيون لم يجدوا مناصا من استخدام تليفوناتهم "الموبايل" للاستنجاد بذويهم عبر المحيطات والبحار وهم محاصرين في فندق تاج محل وغيره من الأماكن الفاخرة، أصبحت الصورة موضع تساؤل، خاصة وأن الهند - شأنها شأن معظم دول العالم - تعاني من تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية. أضف إلي ذلك أن الهند تبدو أمام العالم اليوم غير قادرة علي حل هذه المعضلة واستئصال شافة الإرهاب، خاصة في بلد يمتد باتساع قارة ويصعب السيطرة عليه فعليا من الناحية الجغرافية، فما بالك وأن الجغرافيا السياسية للبلاد ربما تكون أكثر تعقيدا من الجغرافيا الطبيعية بهذا التنوع البشري الهائل للجماعات العرقية والدينية التي يتميز بها عدد ضخم من السكان يزيد عن ألف مائة مليون نسمة، ملايين منهم لا يوجد حتي تسجيل لاسمائهم بأي سجلات رسمية من أي نوع، ويعيشون في مدن صغيرة شاسعة، لدرجة أن هذه العشوائيات تكاد تستوعب نصف سكان مدينة مومباي علي سبيل المثال "وبالتحديد 45% من إجمالي عدد سكانها"، فكيف يمكن السيطرة الأمنية علي بلاد بهذا التركيب. وفي إطار هذه الخريطة المعقدة توجد الأقلية المسلمة في الهند، التي لا تتجاوز نسبتها 10% من إجمالي عدد السكان الذين يشكل الهندوس أغلبيتهم الساحقة. لكن هذه الأقلية المسلمة تصبح في الحالة الهندية 150 مليون نسمة علي الأقل، أي ما يقرب من نصف إجمالي عدد سكان البلاد العربية من المحيط إلي الخليج. هذه الأقلية المسلمة تعيش وضعا بالغ الحرج نتيجة هذه العمليات الإرهابية، والسبب في ذلك أن كثيرا من هذه العمليات تتبني مسئوليتها جماعات تطلق علي نفسها صفة "الإسلامية".. ورغم أن الزعامات الإسلامية الهندية ومن بينها مؤتمر إسلامي احتضنته مدينة حيدر آباد ضم 6000 رجل دين وعالم وقادة إسلاميين قد أكدت أن "الإسلام يدين كل أنواع سفك الدماء وقتل الأبرياء لأسباب ذاتية وتحقيق مكاسب سياسية" وأكدت أيضا أن مصطلح "الجهاد" لا ينطبق علي الأعمال الإرهابية وأنه "ظاهرة بناءة بينما يقوم الإرهاب علي التدمير". رغم ذلك فإن هذه الأعمال تؤدي إلي الربط بصورة تلقائية بين الإرهاب والإسلام وإلي تعميم السلبيات لتشمل العاطل والباطل دون تمييز وإلي تعكير صفو العلاقة بين المسلمين والهندوس، خاصة أن الطرفين يوجد بكل منهما عدد لا بأس به من المتطرفين.