الدكتور محمود محيي الدين كفاءة مهنية وأكاديمية، فضلا عن أنه شخص دمث الأخلاق وحسن التربية. وهو من بين عدد قليل من الوزراءالذين يمكن أن نطلق عليهم لقب "وزير سياسي" رغم أنه من المفترض أن يكون جميع الوزراء سياسيين بحكم التعريف لكن من العجائب المصرية أن هذا المنصب السياسي أصبح لصيقا بالبيروقراط والتكنوقراط بينما أصبح الطريق إليه مغلقا بالضبة والمفتاح أمام "السياسيين"! ولأنه وزير "سياسي" فإنه يرحب بالحوار، ويرحب بالاختلاف في الرأي، ويسعي إلي اعتماد رأيه من خلال الاقناع وليس عن طريقا لفرمانات والأوامر البيروقراطية. وقد ظهرت مواهبه في الحوار وقدرته الفائقة علي الجدل في مناسبات عديدة، لكنها تجلت بصورة خاصة بمناسبة ترويجه لمشروع "إدارة الأصول المملوكة للدولة" الذي رفع شعار "الكفاءة الاقتصادية وتوسيع المشاركة الشعبية" باستخدام آليات "مبتكرة" من بينها "الصكوك المجانية"لكل مصري ومصرية فوق سن الحادية والعشرين. وليس سرا أن الدكتور محمود محيي الدين هو مهندس هذا المشروع الذي شارك في اعداده نحو 32 شخصامن مجالات مختلفة، عملوا جميعا في "سرية" مطلقة لمدة عامين. وبعد أن خرج هذا المشروع من حيز الكتمان إلي فضاء العلانية، ومن الظلام إلي النور، تحمل المسئولية الأولي للدفاع عنه وشرح ألغازه لمن استغلق عليهم الفهم، خاصة وأن هؤلاء كثيرون جداً، كما أن من بينهم خبراء اقتصاديين عتاة ومخضرمين. كما خاض غمار حوارات ومناظرات ساخنة جداً، وشن حملات إعلامية صاخبة ترشحه لتبادل المواقع مع أنس الفقي فيتولي هو حقيبة الإعلام ويجلس الفقي علي كرسي الاستثمار. وعلي المستوي الشخصي فإن الدكتور محمود محيي الدين يستحق التحية والتقدير علي هذا الجهد الجبار، وعلي ترحيبه بالحوار من حيث المبدأ، وعلي اتساع صدره للاستماع إلي انتقادات متعددة كثير منها بالغ القسوة والحرج. ومن حقه علينا في "العالم اليوم" تحية خاصة لأنه خصنا بأول حوار موسع وشامل حول هذا المشروع المثير للجدل، وأمضي مع أسرة التحرير أربع ساعات تقريبا - في يوم عطلته الاسبوعية - ورد بحماس شديد علي كل التساؤلات والانتقادات. وقلنا له من البداية إن ما يهمنا أولاً وأخيراً، ليس هو تأييد هذا المشروع أو معارضته، وإنما هو "فهمه"، خاصة ان "ادعاء عدم الفهم" لم يأت فقط من جانب معارضين لحكومة الدكتور أحمد نظيف التي ينتمي إليها الدكتور محمود محيي الدين أو من جانب صحفيين ينتمون إلي مؤسسات حزبية معارضة أو خاصة، وإنما "اعترفت" به شخصيات مرموقة في الحزب الوطني ذاته وفي المؤسسات الصحفية "القومية" أيضاً. وقلنا له بصراحة وعلي بلاطة إن اتساع نطاق عدم الفهم لهذا المشروع فتح المجال أمام "التفسير التآمري"، فطالما أنه ليست هناك جدوي اقتصادية واضحة ومفهومه له فلابد أن وراءه "ملعوب" ما. وأعترف بأن الوزير محمود محيي الدين لم يتذمر أو يغضب من هذه الصراحة، بل حاول بحماس شديد أحسده عليه أن يفسر ويشرح ويحلل علي النحو المنشور بالتفصيل في الحوار الشامل علي صفحات هذا العدد. لكن هذا الشرح لم ينجح في جعلي "أفهم"، وربما لا تكون هذه غلطته، وإنما يكون العيب عندي أنا. وليس معني هذا أننا كنا في تجربة من تلك التي يطلق عليها وصف "حوار الطرشان"، فقد أسفرت هذه المقابلة الصحفية عن توضيح عدد من النقاط المهمة. 1 إن برنامج الخصخصة المعمول به مرفوع مؤقتاً من الخدمة لحين استبداله بنظام جديد. 2 لأول مرة يتم بصورة رسمية وواضحة وقاطعة تقرير مصير عدد من الشركات وتحديد ما منها سيذهب إلي القطاع الخاص وما سيبقي في قبضة الدولة، وهذه مسألة كانت تسبب قلقا لآلاف مؤلفة من العاملين لا يعرفون مصيرهم ولا مصير شركاتهم. 3 قال الوزير محمود محيي الدين بصورة لا تحتمل اللبس أو التأويل إن مشروعه يتحدث عن 153 شركة قطاع أعمال عام خاضعة للقانون ،203 وأنه "ليس مسئولاً" عن الشركات الأخري. 4 إن الحديث عن هذا المشروع ينبغي ابقاؤه في حدوده، فهذا المشروع ليس هو العلاج الناجع لمشاكل الاقتصاد المصري، وليس العصا السحرية للقضاء علي الفقر أو البطالة. 5 من حق الأجانب شراء هذه الصكوك المجانية بعد تحويلها إلي أسهم ودخولها إلي البورصة. ورغم أن الوزير حاول تبديد المخاوف من أن تكون هذه هي بوابة هيمنة الأجانب علي أصول مصر بالحديث عن ضوابط شبيهة بضوابط الاستحواذ علي رءوس أموال البنوك باشتراط "إبلاغ" جهة الرقابة عند الرغبة في الاستحواذ علي أسهم تزيد علي 5% والحصول علي "إذن" عند الرغبة في الاستحواذ علي أسهم تزيد علي 10%، فإن ذلك لم يبدد مخاوف الكثيرين، ليس فقط من هيئة تحرير "العالم اليوم"، وإنما أيضاً من شخصيات لها وزنها في الصحافة القومية، مثل الأستاذ محمد علي إبراهيم رئيس تحرير جريدة "الجمهورية" الذي كتب مقالا بالغ الأهمية قال فيه "لا نريد أن تتحول أسهم الملكية الشعبية إلي كارثة للفقراء، أو أن يتحولوا إلي طعام شهي علي مائدة الأثرياء". وعلي الحكومة أن تتنبه من الآن إلي سماسرة بدأوا يحصلون علي مكاتب ويطبعون بطاقات يوزعونها في القري بأنهم "وكلاء" الحكومة في بيع وشراء الأسهم. هؤلاء ليسوا رسل الشياطين وسيمصون دماء الغلابة تحت وطأة الحاجة والفقر، ويقدمونهم هم وأسهمهم إلي حفنة ربما نجد البلد كله في قبضتهم لو لم نجعل أعيننا وسط رءوسنا". وما كتبه محمد علي إبراهيم بالغ الأهمية والخطورة، لأنه لا ينطوي فقط علي تحذير مدو من أن يقع "البلد كله في قبضة" حفنة بلا قلب أو ضمير اجتماعي، وان يتضمن "خبراً" مهما كان يستحق الإبراز في الصفحة الأولي عن أن هؤلاء السماسرة بدأوا العمل بالفعل حتي قبل مناقشة المشروع في البرلمان وإقراره!. إذن المخاوف جدية وليست نابعة من فراغ ولا تحركها مجرد الرغبة في مماحكة حكومة الدكتور أحمد نظيف أو تشويه "اختراعاتها" الاقتصادية. وهذا معناه أن الدكتور محمود محيي الدين لن يذوق طعم النوم في الأيام والأسابيع المقبلة.. وقلبي معه.. لكن عقلي يعجز عن فهم مشروعه وما يثيره من مخاوف سياسية واقتصادية واجتماعية. وربنا يستر!. [email protected]