أخيرا بدأ التباطؤ الحقيقي يضرب النمو الاقتصادي في الصين.. لقد انخفض معدل النمو الصيني مرتين من قبل مرة في عام 2004 واخري في عام 2006 ولكنه في المرتين ظل أعلي من 10% أما الآن فقد انخفض معدل النمو كما تقول مجلة "نيوزويك" الي اقل من 10% وينتظر ان يتراجع الي 8% فقط في العام القادم 2009 ومعروف ان الصين كانت تنمو بمعدل 10% سنويا في المتوسط خلال الثلاثين سنة الاخيرة ولكنها الآن لم تعد تستطيع المحافظة علي هذا المعدل المكون من رقمين وسوف يكون لذلك تأثيرات كثيرة علي الصين نفسها وعلي العالم، ومن قراءة السوابق التي حدثت مع المعجزات الاقتصادية الاخري مثل اليابان نجد ان معدل النمو الاقتصادي الياباني قد بدأ يهبط عام 1973 عندما وصل متوسط دخل الفرد في اليابان الي 3 آلاف دولار سنويا وهو نفس المعدل الذي وصل اليه متوسط دخل الفرد في الصين في وقت سابق من العام الحالي، وقد بدأ قانون الارقام الكبيرة يؤثر بالسلب علي المعجزة الصينية، ففي عام 1998 كان علي الصين لكي تنمي اقتصادها البالغ حجمه آنذاك تريليون دولار بنسبة 10% ان تستثمر 100 مليار دولار وان تستهلك فقط 10% من استهلاك العالم للمواد الخام الصناعية، اما الآن بعد ان بلغ حجم اقتصادها 5.3 تريليون دولار فسوف يتعين عليها اذا ارادت تحقيق معدل نمو 10% سنويا ان تستثمر 350 ملياردولار وان تستهلك بمفردها 30% من استهلاك العالم للمواد الخام الصناعية، فالمسألة اذن اصبحت اكثر تعقيدا مما كانت عليه في السابق، والاهم من ذلك ان القيادة الصينية اصبحت تدرك هذه الحقائق وانها لن تحاول العودة الي معدل النمو المكون من رقمين مرة اخري. لقد ظلت ما نشيتات الصحف الصينية حتي وقت قريب تتسم بالتفاؤل، وكانت تعزو التباطؤ الاقتصادي الي ضعف النمو في الدول الغربية التي تعد أفضل زبون للصادرات الصينية وكانت تري ان الطلب الداخلي سيعوض هذا النقص في الطلب الخارجي علي الصادرات، ولكن تبين اخيرا ان الاقتصاد الصيني ليس محصنا ضد التباطؤ وان قطاع الممتلكات فيه هو المسئول عن ذلك تماما مثلما حدث في الاقتصاد الامريكي وغيره من الاقتصادات الغربية. ولأول مرة منذ خصخصة قطاع المساكن الصيني بالكامل يدخل هذا القطاع الدائرة الخبيثة لانخفاض الاسعار وتراجع الطلب، لقد تضاعفت اسعار الممتلكات من عام 2000 حتي عام 2007 ورغم ان الحكومة بدأت ترفع اسعار الفائدة وتقيد الائتمان من اجل تبريد الاقتصاد البالغ السخونة فإن الشركات استمرت في البناء مرهنة علي زيادة الطلب ولكن المبيعات بدأت فجأة في الهبوط واستمر هبوطها في اكتوبر 2007 ثم تحولت الي رقم سالب في الربع الثاني من العام الحالي وهناك الآن حرب اسعار بين الشركات من اجل البيع وهي حرب تمتد في كل المدن من بكين حتي شنزهين وتبلغ معدلات الخصم، فيها 10 - 20% من السعر المعروض. ولا شك ان هذا الهبوط في قطاع الاسكان ستكون له كما تقول مجلة "نيوزويك" تداعياته علي جميع قطاعات الاقتصاد الصيني، صحيح ان التفاؤل لايزال يحكم البعض ولكنه تفاؤل غير حقيقي، فالاستثمارات العقارية تمثل وحدها ثلث الاستثمارات الكلية في الصين وهبوطها سيعني هبوط معدل النمو المتوقع بمعدل 1% اضافية علي الاقل، وهنا يطرح سؤال مهم هو الي أي مدي سوف يستمر هذا الهبوط وكيف ستخرج الصين منه؟ نود ان نقول اولا ان البنك المركزي الصيني بدأ اخيرا يخفف من سياسته التقشفية ويخفض اسعار الفائدة ويوارب ابواب الائتمان التي كانت مغلقة.. كما نود ان نشير الي ان الدين العام الحكومي في الصين لا يتجاوز 16% من اجمالي الناتج المحلي وان هذا يمكن الحكومة الصينية من ضخ المزيد من الاستثمارات في الاقتصاد من اجل وقف الهبوط في معدلات النمو. ولكن الشيء الذي لا ينبغي ان يغيب عن الاذهان هو ان الاقتصاد الصيني وصل حجمه الي الكتلة الحرجة ولم يعد النمو فيه سهلا كما اشرنا في البداية اعتمادا علي المقارنة مع تجربة اليابان، والمؤكد ان اقتصاد حجمه 3.5 تريليون دولار لا يمكن ان ينمو بأكثر من 8% سنويا. لقد نجحت الحكومة الصينية في تبريد الاقتصاد وهي لن تغامر بتسخينه مرة اخري، بمعدل التضخم كان قد تجاوز كثيرا الحدود الآمنة وهي 5% سنويا واصبح يقترب من 9% سنويا ولكن الحكومة استطاعت ان تعود به في اغسطس الماضي الي 4.9% ولذلك فإنها سوف تتحرك بحذر في مسألة تنشيط معدل النمو مرة اخري. ورغم التسليم بأن آثار الازمة المالية العالمية علي الصين ستكون محدودة الا انها ستكون دون شك عنصرا ضاغطا علي الحكومة الصينية يدعوها الي الاعتدال في تحديد معدلات النمو الاقتصادي المستهدفة حتي لا تجد نفسها - مع استمرار الازمة المالية العالمية - في وضع اقتصادي لا تستطيع السيطرة عليه، وهذا يجعلنا نقول ان معدل النمو "11.9%" الذي تحقق في العام الماضي لن يتكرر مرة اخري وان معدل النمو الاقرب الي التوقع في الصين هو 8% فقط خلال العام القادم 2009 وهو ايضا المعدل الذي يتناسب مع الكتلة الحرجة التي وصل اليها حجم الاقتصاد الصيني.