من جانبهم اجمع خبراء علم الاجتماع علي ان المجتمع المصري يشهد بالفعل تحولا جذريا في تبني المواطن البسيط لقيمة الانتماء والموالاة، إلي الحد الذي جعله يعتبرها مجرد ترف لا يتماشي مع حالة الاغتراب والاحباط والفقز المدقع الذي يرزخ تحتها أغلب السكان. فقدان الثقة في قدرة الحكومة علي ادارة الازمات وتلبية احتياجات المواطن من مأكل ومسكن ووظيفة لائقة كان دافعا جديدا لتحول انتماء المواطن احيانا إلي الشماتة في الكوارث الي تصيب الحكومة.. حيث يوضح اغلب الخبراء ان تداعيات تفشي هذه الظاهرة يمكن رصدها بسهولة في زيادة معدلات الجرعة والفساد والرشاوي، الأمر الذي يدعونا إلي الدراسة والبحث علي آلية لاستيعاب هموم ومشكلات المواطن محدود الدخل. بداية يوضح د. عبدالرؤوف الضبع - استاذ علم الاجتماع - ان مفهوم الانتماء في حد ذاته هو النقيض لحالة الاغتراب التي هي فقدان الفرد للشعور بالانتماء تجاه المجتمع او البيئة المحيطة، وهو أمر خطير جدا خاصة مع خضوع الفرد للعوامل المثبطة الي تقلل من شعوره بالانتماء تجاه مجتمعه. ويري د. عبدالرؤوف الضبع ان مصطلح الانتماء لدي المصريين قد اصبح محيرا خلال الآونة الأخيرة إلي الدرجة التي تدعونا لوصفه ب "الانتماء المجنون" لدي المواطن، فأحيانا نري تكاتفا غير عادي وشعورا بالانتماء الشديد تجاه الوطن اثناء احدي مباريات كرة القدم! واحيانا أخري نرصد ردود افعال غير مكترثة عند احتراق مبني تاريخي مثل مجلس الشوري، حتي ان المواطن يتعامل مع هذه الكارثة كالسائح الذي يثير فضوله موقف غريب فيقف دقائق لالتقاط صورة تذكارية له! ويضيف د. عبدالرؤوف ان حالة التدهور الاقتصادي التي يشهدها مجتمعنا مؤخرا وغياب القدوة الحقيقية التي تعطي الأمل في تحسن الاوضاع لعبا دورا بارزا في تفعيل عوامل انحسار فضيلة الانتماء لدي المواطنين. مشيرا إلي ان فترة الستينيات والسبعينيات علي سبيل المثال قد شهدت بالفعل حسا قويا بالانتماء تجاه تراب ارض هذا الوطن والسؤال الآن هل يقتصر شعورنا بالانتماء علي تعرضنا لاحدي الازمات الكبري ام ان للأمر علاقة بثقافة مجتمع اصبح الفرد فيه يسعي لتغليب مصلحته الذاتية علي المصلحة العامة؟ ويؤكد د. الضبع ان الخروج من حالة الاحتقان التي يعانيها مجتمعنا إلي الحد الذي تنحسر فيه قيمة الانتماء لصالح الشماتة تجاه الكوارث ترتهن بالضرورة بقدرتنا علي استشعار خطر انتشار هذه الظاهرة والسعي لتحجيمها اذا كنا ننشد بالفعل حل جميع مشكلاتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وان فضيلة الانتماء ليست مجرد شعور عاطفي تجاه المجتمع وانما يوازي القوة الحقيقة لبناء المجتمعات واقتصادات الدول. فيما تري د. إنشاد عزالدين - استاذ الاجتماع بكلية الأداب جامعة المنوفية - انه لا يمكن الجزم باختفاء قيمة الانتماء لدي مجتمعنا، مؤكدة ان ردود الأفعال المتباينة التي تم رصدها إثر احتراق مبني تاريخي مثل مجلس الشعب والشوري والتي اصطبغت بعضها بالشماتة غير مبررة فتكون رد فعل طبيعي لمعاناة المواطن من الغلاء والفقر الشديد داخل وطنه. كما انها تجسد حالة العداء الشديد الذي اصبح المواطن المصري البسيط يشعر تجاه الحكومة المصرية، فأزمة الانتماء التي يعاني منها المواطن المصري حاليا كانت نتاج طبيعي للضغوط الاقتصادية التي احكمت قبضتها عليه من ارتفاع اسعار المواد الغذائية الاساسية وتواضع الدخول بالاضافة إلي ازمة رغيف العيش. التي مازالت تبحث عن حلول جذرية هذا بخلاف فقدان الثقة في الحكومة ووعودها الوردية وتصريحاتها المتعاقبة التي تشير بوجود تحسن حقيقي في معدل النمو الاقتصادي دون شعور المواطن بثمرة هذا النمو. كل هذا جعلنا نفتقد ترف الموالاة لهذا المجتمع. وتري د. إنشاد ان اعادة الثقة في اداء الحكومة المصرية وقدرتها علي ادارة الازمات بالاضافة إلي تلبية الحاجات الاساسية المواطن البسيط من توفير السلع الاساسية باسعار تناسب المستوي العام للدخول والمسكن الملائم والقضاء علي مشكلات الفقر المتفاقمة داخل مجتمعنا، قد تكون الحل الأمثل لاعادة فضيلة الانتماء. ونري د. إنشاد ان موجة بيع اراضي الدولة وتملكها للاجانب او العرب خلال الفترة الأخيرة، ادت إلي تفاقم شكوي اغلب المواطنين بالاغتراب داخل الوطن، ولا عجب اذن ان تطالعنا الصحف كل يوم بوفاة الكثير من الشباب المصري الذين فضلوا الهجرة غير الشرعية لأي بلد سعي وراءا لرزق او تفاقم معدل الجريمة من فساد ورشاوي وقتلي وأغتصاب نتيجة تردي الاوضاع الاقتصادية وزيادة معدل البطالة والفقر داخل المجتمع. انقسام المجتمع إلي طبقتين احدهما تتميز بالثراء الفاحش والأخري تعاني من الفقر المدقع كان له الفضل في زعزعة ولاء المواطن نسبيا لمجتمعه. كما تري د. إنشاد ان الاحداث الأخيرة من خصخصة القطاع العام وتسريح العديد من الموظفين تحت ستار المعاش المبكر جعل المواطن لا يشعر بأمان داخل بيئة العمل مع نشويش الحقاق وعجزه المستمر عن تحديد معالم المستقبل. وتوضح د. انشاد ان الشفافية والوضوح والمصارحة من جانب الحكومة أهم مفردات ترسيح مصطلح الانتماء تبحث عنه دون جدي لدي المواطن المصري. من جانبه يري د. أحمد أبوالعزايم - استاذ علم النفس بجامعة عين شمس - ان المواطن المصري يتميز بميله إلي التكيف مع البيئة المحيطة به ونبذ فكرة التمرد تماما، حتي ان البعض قد يفسر هذه القدرة علي التعايش بالخضوع والاستسلام. إلا ان هاتين الصفتين تعد ان ركيزة اساسية لصفة الانتماءالتي يتحلي بها المواطن البسيط. وإن كان افتقاده للدعم المادي والنفسي والمعنوي وتعرضه للعديد من الضغوط الاقتصادية وضعف القدرة الشرائية لمعظم حاجاته الاساسية قد يكون دافعا كبيرا لاحساسه بالكسرة وفيما تؤكد د. مديحة الصفتي "أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية" أن أبرز المضارين من اختفاء قيمة الانتماء داخل مجتمعنا هم الشباب الذين يبحثون عن قوانين مراعية لحقوقهم في الحصول علي وظيفة ومسكن وتعليم متميز وتلقي العلاج في حالة المرض.. مما يورثهم حالة من الاحباط الشديد والبحث عن أوطان جديدة تستطيع تلبية رغباتهم.. مشيرا إلي أن هجرة الشباب غير الشرعية كانت افرازا حقيقيا لدوامة الحرمان من أبسط الحقوق التي تكفلها كل المجتمعات، خاصة وأن الانتهاء هو حالة وطنية لا شعورية يتم تغذيتها بالتربية حيث يشعر كل فرد بارتباط وثيق بالبيئة التي ولد فيها وترعرع وفيها يتحصل علي جميع حقوقه الآدمية. تداعيات غياب الانتماء لدي الشباب توضحها د. مديحة الصفتي بأنها متفاقمة تبدأ بعدم شعور المواطن بمسئوليته داخل موقع العمل وتنتهي بحدوث خلل مستمر في معدل الإنتاج.