اليوم هو التاسع من يونية عام ،2008 وهكذا مر واحد وأربعون عاما علي حادث تنحي جمال عبدالناصر من رئاسة الجمهورية العربية المتحدة. ولما كنت أقيم في ذلك الوقت بشارع ابن منظور الكائن خلف منزل جمال عبدالناصر مباشرة، فقد كنت واحدا من أوائل من خرجوا لاستكشاف الحقيقة، خصوصا أن لي صداقات مع العديد من كبار رجال الدولة. ورأيت كيف خرج المصريون يومها تباعا من بيوتهم يعلنون لجمال عبدالناصر كلمة واحدة هي "لا للتنحي" قالوها بالحب وقالوها أيضا كعقاب وتأديب فمن يحكم مصر بعد هزيمة ساحقة ماحقة كهزيمة يونية لابد أن يكون الحكم هو نوع من العقاب. هكذا فسرت أنا هذا الاصرار الشديد من العقل الجمعي المصري كي يظل جمال عبدالناصر في موقعه، لعله يصلح ما فسد بواسطة رجاله. وأتذكر كيف قال جمال عبدالناصر بصوته المعروف "عارف أن النظام حصل فيه شرخ"، وطلب معاونة الجمهور في علاج هذا الشرخ واصلح ما افسدته اختياراته من قبل، فأسند القوات المسلحة لمن هم قادرون علي الحرب. وأخص بالذكر الشهيد الجليل عبدالمنعم رياض، هذا الذي حسبت له إسرائيل ألف حساب ونالت منه إبان حرب الاستنزاف. مازالت الذاكرة تحتفظ بصورة من رغبوا في الحكم دون أن يكونوا جديرين به، خصوصا شمس بدران الذي كان يتلاعب بالاشخاص، ويذيق الآخرين الويل إن لم يرضخوا له. مازلت أذكر المرحوم مصطفي كامل محمود الضابط الذي اعتقله شمس بدران مع مجموعة مع زملائه، دون أن يعرفوا لماذا اعتقلوا، ولم يفرج عنهم إلا بعد الهزيمةالعسكرية. ومازلت أذكر كيف كانت الراحلة المطربة مها صبري تتحكم في كل الوسط الفني لمجرد أنها تزوجت من علي شفيق مدير مكتب عبدالحكيم عامر. ومازلت أذكر مشهد جندي مصري فقد صوابه بالكامل لأنهم نسوه لشهور علي قمة جبل باليمن أثناء تواجد القوات هناك. عشرات من التفاصيل المريرة، استوعبها المصريون، وقرروا بالعقل الجمعي تقييم جمال عبدالناصر كبطل لحركة تحرر وطني، ولذلك لا يجب أن يترك موقعه، ومن بعد ذلك تابعوا بشجاعة رحلة تكوين جيش خاض معركة الاستنزاف ببسالة قد لا تعرفها أي قوات مسلحة علي مستوي الكون كله. فقد أعطي الرجال كل ما عندهم من طاقة لاستيعاب العلم والتدريب. لقد احتفظ المصريون بجمال عبدالناصر الذي طرد الانجليز من مصر بقوة الدهاء، وقاموا بتأديبه عبر المظاهرات التي طالبت بمحاكمة كل مسئول عن هزيمة يونية. وخاض المصريون من بعد ذلك بست سنوات حربا هائلة، واجهنا فيها الولاياتالمتحدة التي أرادت أن تهزمنا فلم تستطع. أكتب ذلك لأن كثيرين منا يفقدون الأمل في لحظات المرارة، وينسون أن المصريين قادرون أيضا علي العقاب والتأديب من خلال الحب كما حدث مع جمال عبدالناصر.