الطائرة التى حملتنى من باريس إلى القاهرة فى الثانى من مارس عام 1964 كانت لها مصابيح تضىء وكأنها شعلات من نار. ومن فرط الزهق والضيق وعدم رغبتى فى ترك باريس وكراهيتى لأساليب الدس عبر أجهزة الدولة، من فرط كل ذلك تمنيت أن تكون تلك المصابيح هى نار تشتعل فى الطائرة كى تضع نهاية لحياتى أنا الذى لم أبلغ من العمر سوى أربعة وعشرين عاما. والسبب بمنتهى البساطة هو اصطدامى المباشر مع سفير مصر بباريس فى ذلك الوقت، لأنه ظن أن المصريين الذين يعيشون أو يتعلمون فى مدينة النور هم قطيع من العبيد عليهم إطاعة أوامره وتعليماته. سبب الصدام ببساطة أن الرجل أكد لى أن قيادة فرنسا قررت أن توقف تسليح إسرائيل. وراح يلح فى ضرورة نشر هذا الخبر فى مجلة «روزاليوسف». وأوهمنى أن فى ذلك نوعاً من دعم سياسات مصر الخارجية، وبالفعل كتبت الخبر لأرسله إلى «روزاليوسف» فأعاده لى الأستاذ إحسان عبدالقدوس مصحوبا بقصاصة ورق لخبر منشور بالأهرام يحمل قائمة أسلحة فرنسية تم إرسالها بالفعل إلى إسرائيل، ومعها قائمة أخرى بأسلحة سيتم تسليمها فى المستقبل، ومعها كتب إحسان عبد القدوس «عزيزى منير: من حقك أن تستمتع بقصة حبك كما تشاء، لأنك سافرت على نفقتك الخاصة ولم تكلفنا مليما واحدا، وتكتب لنا تحقيقات تليق بوجودك فى عاصمة النور، ولكن عليك ألا تقع فى مصيدة تسريب أخبار كاذبة على المجلة التى تنتمى إليها». كانت رسالة إحسان تحمل من التوبيخ والتنبيه أكثر مما يحتمل جهاز عصبى العارى. فدخلت على السفير قائلا له: من قام بتعيينك فى منصب سفير مصر هنا؟ أجابنى بثقة وتعال: طبعا الذى أصدر القرار هو الرئيس جمال عبدالناصر. فقلت بصوت واضح الكلمات: «ظلمك الرجل، لأن آخر ما يمكن أن تصلح له هو جرسون فى جامع عمر مكرم لتقدم القهوة السادة». وتوهمت أنى أهنته بما يليق مناسبا نتيجة تسريب خبر كاذب. هددنى بسحب جواز سفرى، فأعلنت له بوضوح أنى أعرف جمال عبدالناصر بشكل شخصى وأن عليه أن يبحث عن وسيلة أخرى لتهديدى، خصوصا وهو يعلم أنى حرضت عدداً من دارسى درجة الدكتوراه ألا يستسلموا لطلباته منهم أن يكتبوا تقارير فى زملائهم، فعبدالناصر وثورة يوليو لا يحتاجان إلى مخبرين، ولكنهما يحتاجان إلى مثقفين يحترمون أنفسهم. وأقسم بالله العظيم أن بعضهم صدقنى وبعضهم الآخر خاف منى، خصوصاً أنه استخدم ضدهم لعبة تأخير مرتب البعثة فى بلد تتنفس فيها بنقود. وكان الصدام الثانى هو أنى سأنشر فى «روزاليوسف» خبر استخدامه لتأخير مرتبات البعثة، كوسيلة لتعذيب المبعوثين فقال يومها: «سأقوم بتأديب هذا الشاب الأرعن». وطبعا لا داعى أن أقول أن حبيبتى التى كانت تدرس بباريس فى ذلك الوقت تعرضت لصنوف من الضغوط عليها تفوق خيال أى أحد، ولكنها كانت قادرة على تحمل أية ضغوط. وجاء ميعاد عودتى إلى القاهرة بعد أن زهقت من اللعب مع هذا السفير. كانت علاقتى بالسفارة أكثر من عميقة، خصوصاً الصداقة التى جمعتنى مع القائم بالأعمال الذى كان يتحمل مسئولية السفارة قبل ذلك السفير وهو الذى صدر له قرار بتعينه سفيراً فى ألمانيا وهو السيد جمال منصور، وهو صاحب الفضل على شخصى حين قدمنى كى أعمل بالقسم العربى بالإذاعة الفرنسية، وأقوم بعرض الكتب التى تصدر بالعربية، وكانت المكافأة تكفى احتياجاتى وتزيد. ولم يكتف الرجل بذلك، بل ناقشنى فى العديد من معلوماتى السياسية فوجد أنى على معرفة ليست سهلة بكل القوى التى تلعب على المسرح السياسى الفرنسى؛ فما كان منه إلا أن أقام حفل عشاء على شرف الترحيب بى ودعا إليه كوكبة من الصحفيين الفرنسيين. وهكذا سهل الرجل مهمتى كصحفى فى باريس. ولكن الحال اختلف بعد نقل جمال منصور إلى بون بألمانياالغربية، فقد جاء من يسرب لى ذلك الخبر الكاذب. وليبدأ صراع علنى بين صحفى شاب فى الرابعة والعشرين وسفير لمصر يقترب من الأربعين. ولم تفتنى ملاحظة مستشار بالسفارة قيل عنه أنه «مندوب جمال عبدالناصر بشكل شخصى» هو السيد محمد شاكر» واسمه الفعلى محمد شكرى حافظ كما عرفته من بعد ذلك. وكان هذا المستشار يسألنى أحياناً «لماذا لا تقابل فلان الذى يعمل بالجهة الفلانية وتجرى معه حواراً؟» وكنت أسأله: «هل ستساعدنى فى تحديد المواعيد ومناقشة سابقة للقاء أتعرف فيها على الشخص المطلوب إجراء حوار معه؟» وكانت إجابته «بالتأكيد، بل سنضع إمكانيات الترجمة من الفرنسية إلى العربية من خلال صديقك على السمان». وفرحت لأن فى ذلك اتساعاً لمعرفتى بتفاصيل المجتمع السياسى الفرنسى. وحين طلب منى محمد شكرى حافظ نسخة من الإجابات التى عن حصلت عليها من حوار مع مدير مكتب ديجول لشئون البترول، قلت له: «يمكنك أن تقرأها فى روزاليوسف». ضحك الرجل وقال: «لا تنسى أنى من قمت بتحضير جزء من الأسئلة وجزء من المعلومات» ضحكت أنا قائلا: «سأطلب لك مكافأة من إحسان عبد القدوس». فكرت قائلا: «مادام يحتاج إلى المعلومات وكان معى د. على السمان أثناء الحوار فما المانع أن أعطيه نسخة من الحوار؟» وأعطيته نسخة من الحوار فقدم لى ظرفا أحسست أن به نقودا، فضربت الظرف بطرفى أصابعى قائلا له «الفارق بين المواطن والعميل هو ذلك. حاول الرجل إقناعى بأن هذا المال هو للمواصلات، فأقنعته أنى صحفى أقبض مرتبا بالقاهرة، وأعمل فى الإذاعة الفرنسية الموجهة بالعربية، ولا أحتاج إلى نقود تزيد على حاجتى. وحين جاء ميعاد عودتى إلى القاهرة قال لى واحد من المقربين للسفير أن على أن أحذر فقد كتب الرجل تقريراً أنى صحفى مشاغب قمت بالاتصال بكل القوى المعادية للثورة ولجمال عبدالناصر. فضحكت لمن نقل لى ذلك، وقلت له: إن كان قد أبلغك بذلك لتبلغه لى فقل له أنى سأتصل بجمال عبدالناصر طالباً منه أن يختار ممثليه بدقة أكثر مما تم اختيار ذلك السفير لمنصبه، فأنا أعلم أن الجزائر قد رفضت قبوله سفيرا وكذلك المغرب وأيضا إسبانيا، وقبلته فرنسا لأنها لا تريد زراعة الحرج فى العلاقات المصرية الفرنسية». وأيقن السفير عندما وصلته تلك المعلومات أنه يلعب مع شاب له معرفة أكبر مما يتخيل بدهاليز القاهرة. وفى يوم العودة إلى مصر، كنت أودع محمد شكرى حافظ الذى قيل لى أنه الممثل الشخصى لجمال عبدالناصر، وأطلعنى الرجل على نص التقرير الذى أرسله عنى إلى السيد محمد زغلول كامل الذى يعمل فى جهاز المخابرات العامة ، وسألنى إن كنت أعرف أحدا يمكن أن يوصلنى للسيد محمد زغلول كامل، فأجبته أنى أعرف جمال عبدالناصر بذات نفسه، فقد كان والده يسكن فى منزل خلف منزلنا بالإسكندرية. ضحك الرجل وقال لى: ومن تعرف فى مصر من شخصيات غير جمال عبدالناصر، أجبته: صديقى فى قلب الدولة هو السيد شعراوى جمعة. وكان محافظاً للسويس فى ذلك الوقت أجابنى الرجل: كان شعراوى جمعة نائبا لرئيس المخابرات ورئيساً مباشراً لزغلول كامل. ويمكنك أن ترد بنفسك على كل اتهامات السفير لك أثناء مقابلتك للسيد زغلول كامل. فى الطائرة كنت أتمنى أن تشتعل كى تسقط بى زهقا من وجود شخصيات مثل هذا السفير. ولن أنسى ملامح شعراوى جمعة قبل أن يطلب لى موعداً مع السيد زغلول كامل، فقد قال لى «إن كنت قد فعلت أى شىء مما قاله عنك ذلك السفير فأنصحك ألا تلتقى به». طلبت من شعراوى أن يحدد لى موعداً مع السيد زغلول كامل، وأنا أقول له: لابد أن نضع حداً بين هذا الفصل التعسفى بين فكرة الإنسان المصرى العادى، وبين من ينتمى إلى 23 يوليو، فليست الثورة هى إعادة ميلاد لمماليك جدد، وليست المناصب الحساسة هى فرصة لممارسة الجبروت على خلق الله. وقام شعراوى جمعة مكرما بنقل الحوار الذى دار بينى وبينه إلى السيد زغلول كامل بحذافيره. وتم تحديد الميعاد، وسمعت عبر التليفون صوت زغول كامل «الثورة ليست منفصلة عن الناس، وليست كياناً يتم تفريخ ممالك جدد ليحكموا مصر، ولو كان الأمر كذلك لصدقنا ما قاله عنك السفير ولتم اعتقالك. ولكنى أعدت له تقريره الذى كتبه عنك مذيلا بجملة «لا داعى لأن تشغلنا بأقوال غير دقيقة». وهكذا بدأت صداقة مع رجل اختار الرحيل يوم 17 فبراير من هذا الشهر، ولم يكتب فى نعيه سوى كلمات بسيطة، وأصر على أن يوصى بأن يقتصر وداعه على تشييع الجنازة. وللأسف منعتنى ظروفى الصحية من وداعه، ولكن رحيله لم يمنع شريط ذكريات لرجل محترم احتل لسنوات مكانة قريبة من قلب جمال عبدالناصر، يفتح قلب ذلك القائد بالثقة وتتجدد فيه الثقة لأن جمال عبدالناصر كان يعلم أن زغلول كامل كان واحداً من قلة يضعون عشق الوطن فوق أى عشق آخر، ويضعون الولاء لما تمثله 23 يوليو بالنسبة للخريطة العربية، فوق الولاء لأى شخص حتى ولو كان هذا الشخص هو جمال عبدالناصر شخصياً. وفى الأسبوع القادم نواصل رحلة تذكار لحياة رجل محترم.