لا أظن أن إنسانا عاش حجم الأمل في انتصار مصر علي إسرائيل يوم الخامس من يونيو من عام 1967، ثم رأي حجم الوكسة الهباب التي غرقنا فيها في ذلك النهار الكئيب، لا أظن أن أحدا يمكن أن ينسي ما حدث من انتقال الجموع من مشاعر الأمل والثقة إلي قاع الإحساس بالمهانة والخيبة. أقول ذلك وأنا واحد ممن يحبون جمال عبدالناصر لما أضافه إلي مصر من مكانة عالمية، وأيضا أنا واحد ممن وثقوا في قدرته علي التعلم من أهل العلم حين أسند إعادة بناء القوات المسلحة إلي الشهيد عبدالمنعم رياض رئيس أركان القوات المسلحة من بعد النكسة وهو من جمع في الجيش المصري قرابة المليون مقاتل متعلم، وأركز علي ضرورة النظر إلي كلمة "متعلم" فقد كان التعليم أيامها يقوم بتدريب العقل والقلب علي التعاون معا لصياغة رؤية الإنسان كي يكتشف العيوب والخبايا، ويبحث بالعلم عن طريق لتطوير الحياة. ولقد امتلأت مصر في المسافة الواقعة من هزيمة يونيو 1967 وحتي انتصارنا في أكتوبر 1973 بالعديد من المفاجآت التي قام بها مصريون بسطاء بداية من التدريب الجاد إلي حد مذهل علي العبور، ومرورا بحرب الاستنزاف التي كلفت إسرائيل العديد من جنودها. ثم جاء انتصار أكتوبر كي يتوج المصريين إبداعهم بإنزال العقاب علي نكسة يونيو وتزعزت بالفعل نظرية الأمن الإسرائيلي، وبطبيعة الحال لم تكن إسرائيل قد كشفت عن وجهها الحقيقي كحاملة طائرات ومخزن سلاح للقوات الأمريكية كي تساعد بوجودها علي صيانة التخلف في المنطقة الواقعة من المحيط إلي الخليج وذلك كي يظل البترول العربي تحت سيطرتها. فكرت في كل ذلك وأنا أتابع نانسي عجرم وهي تغني في وسط بيروت، وقلت لمن كانوا يشاهدون معي الحفل "إن نانسي عجرم تقاوم ما حاول كيسنجر أن يؤكده في المنطقة العربية". واندهش الجميع من قولي، فعدت أقول "لا أحد من أهل الرأي في المنطقة العربية يمكنه أن ينسي أن كيسنجر كان هو صاحب القول الفصل في التعامل مع البلدان العربية بشكل يعمق الخلاف بين حكوماتها، ولا أحد في الولاياتالمتحدة والغرب عموما ينسي أن المزاج النفسي للعرب يتوحد فنيا مع أم كلثوم وعبدالحليم. وها هي نانسي عجرم تغني الآن لبيروت كواحة عربية لا فرق فيها بين أصحاب المذاهب المختلفة، فلا يوجد في صوتها درجة من التعصب المذهبي الذي قد يقود الأمة العربية إلي مأزق هلاك جديد، فضلا عن فكرة القومية العربية التي أحياها جمال عبدالناصر وتلقي عقابا عليها في هزيمة يونيو، هذه الفكرة تعرضت للتهديد فيما بعد توقيع مصر لمعاهدة السلام مع إسرائيل. وإذا كنا نغني الآن لانتصار اللبنانيين علي الطائفية المقيتة، وإذا كانت الأمة العربية تريد لنفسها مكانا بعيدا عن مزبلة التاريخ، فلا أقل من أن نلتفت إلي أننا نملك أكبر إمكانات التقدم ونمارس في نفس الوقت أقصي درجات السير في طريق التخلف، فنحن نملك من الثروات المادية ما يفوق الخيال، ونملك في نفس الوقت أعلي نسبة بطالة في الكون. فهل يمكن أن نقهر ما زرعه كيسنجر بمؤتمر عربي يقفز فوق المشكلات التي تصنع التفرق، ونبحث عن مشاريع عملاقة للزراعة والتصنيع بما يكفي سكان المنطقة العربية، أم نحفظ الطريق إلي جهنم بأن نزيد من اشتعال الطائفية؟ إن الخامس من يونيو عندما يعود كل عام يذكرنا بأن الفرقة والاقتتال وتجاهل المنهج العلمي لصيانة الحياة كلها وسائل تصنع الهزائم بسرعة هائلة، أما العلم والعمل بالتنسيق المشترك فيمكننا أن ننتصر بهما. وختمت كلماتي بالهتاف "عاشت نانسي عجرم حاملة لواء العروبة في زمن الطوائف". وضحك من سمعوا هتافي، ولكني وحدي رأيت خيوط الدموع لأني أعلم ما تخبئه الطائفية لفكرة العروبة كاملة.