بدأ رجل الأعمال الروسي فلاديمير بولانوف حياته العملية عام 1991 بمجموعة من الأكشاك الخشبية كانت تبيع كل شيء من زجاجات الفودكا إلي الجوارب ثم أقام أول متجر له بعد ذلك وبدأ يسافر إلي الخارج ليجلب الثلاجات من روسياالبيضاء وثمار اليوسفي من قبرص.. ومع حلول عام 1995 كان قد أصبح من الأثرياء.. وفي عام 2000 حدثت نقلة أخري في أعماله حيث اشتري أحد المصانع المفلسة التي كانت تصنع معدات التدفئة للغواصات وغلايات الشاي وقام بتجديد المصنع مستوردا كل اَلاته من ألمانيا. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إن ظهور رجال أعمال مثل بولانوف وقبول المجتمع لهم ربما يكون أكبر إنجازات روسيا في عصر ما بعد الشيوعية، كما أنه السبب الرئيسي لمعدل النمو البالغ 7% سنويا الذي يحققه الاقتصاد الروسي حاليا.. ومع إصرار بولانوف علي تنمية استثماراته فإنه يقف ضد الحكومة لأنه يفضل الحرية علي الخوف والفساد.. ويقول الرجل إنه لا شيء سيوقف مسيرته سوي الاغتيال أو وضعه في السجن، ولاشك أن مستقبل روسيا سيتقرر علي ضوء نتيجة الصراع بين رجال الأعمال مثل بولانوف وبين ماكينة الدولة الروسية. ومع ذلك فإنه حتي من كانوا ينتقدون حكومة الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين نجدهم مبهورين بالتحول الذي شهدته روسيا في عهده الذي لم يدم طويلا.. فقد تحولت روسيا من بلد كان علي شفا الإفلاس منذ عشر سنوات فقط إلي بلد حجم اقتصادها المزدهر يناهز ال 3.1 تريليون دولار واحتياطياتها من العملة الأجنبية 480 مليار دولار إلي جانب 144 مليار أخري في صندوق الاستقرار مأخوذة من فوائض إيرادات البترول والغاز الطبيعي.. كما تنمو الدخول الحقيقية للمواطنين بنسبة مكونة من رقمين سنويا.. وبلغ متوسط نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي 9 اَلاف دولار بأسعار الصرف الراهنة بعد أن كان أقل من ألفي دولار عام 1998.. ولم يسبق للروس في حياتهم أن تسوقوا أو سافروا بهذه الكثرة.. كذلك فالمطاعم والأسواق والمطارات تعج بالزحام والشوارع مليئة بالسيارات المستوردة. وقد كان بوتين مستندا إلي اقتناع الناس بتلك الإنجازات علي ثقة في أن الناخبين سيصوتون لصالح مرشحه للرئاسة ديمتري ميدفيديف الذي اختاره كخليفة له وهو ما حدث بالفعل. وقد سئل بوتين قبل الانتخابات: لماذا لا يشترك ميدفيديف في مناظرات تليفزيونية؟ ولماذا لا توجد منافسة سياسية في الانتخابات؟ فرد بوتين قائلا: إن أجور الناس تزيد حاليا بمعدل 16% سنويا وتلك هي إجابتي علي هذا السؤال؟ والحقيقة كما تراها مجلة "الإيكونوميست" هي أن الاقتصاد الروسي قد بدأ صعوده قبل تولي بوتين الحكم بنحو 18 شهرا وواصل هذا الصعود بفضل ثلاثة عناصر هي المبادرة الخاصة لرجال الأعمال.. وارتفاع أسعار البترول التي زادت 400% خلال سنوات حكمه.. واستقرار العناصر الكلية للاقتصاد الروسي.. ولاشك أن الفضل في هذا العنصر الأخير يرجع كله إلي بوتين ورجاله.. ولكن ما يحدث الاَن هو أن الاقتصاد الروسي صار أكثر اعتمادا علي إيرادات البترول من أي وقت مضي.. كما أن المشهد الاقتصادي العام يبدو كئيبا بعض الشيء لأن حدوث تباطؤ اقتصادي عالمي سيؤدي إلي عدم زيادة أسعار البترول بل وربما إلي انخفاضها. ويقول الرئيس بوتين إنه عندما تسلم الحكم كان أداء الدولة ضعيفا، ولكنه لم يتردد في إدانة أسلافه الذين عملوا في رأيه ضد الدولة والمجتمع.. وخدموا مصالح جماعات الأقلية، وبددوا الثروة القومية وقادوا روسيا إلي الفقر الجماعي والفساد الذي جاهد بوتين لضربه.. وقد جاء بوتين للحكم في لحظة فريدة حيث حدثت أزمة الديون وانخفاض سعر الروبل عام 1998 وأدي ذلك إلي اهتزاز النظام المالي للبلاد.. ولكن تحرير الروبل إلي جانب ما حدث من إصلاحات اقتصادية عظمت دور القطاع الخاص وحررت الأسعار مما أدي إلي تعافي الاقتصاد الروسي سريعا من هذه الأزمة وحقق معدل نمو 6% في عام ،1999 وفي عام 2000 صعد معدل النمو إلي 10% سنويا وهي طفرة لم تتكرر بعدها. ولكي نكون منصفين لابد أن نذكر أن بوتين عمل كل ما في وسعه لدعم النمو الاقتصادي والتحول إلي اقتصاد السوق واختار لهذه المهمة عقلية ليبرالية فذة هي اندريه إيلاريونوف الذي عمل كمستشار اقتصادي للرئيس الروسي حتي عام 2005. أما الخطأ الرئيسي الذي وقع فيه بوتين كما تري مجلة الإيكونوميست فهو أنه أعاد إحكام قبضة الدولة من جديد علي قطاع البترول والغاز، ولكن إيلاريونوف يؤكد أن ما حدث لم يكن إعادة تأميم لهذا القطاع وإنما إعادة تنظيم له عن طريق اَليات الاندماج والاكتساب المعروفة في النظام الرأسمالي الغربي. ويقول اندريه شارونوف الإصلاحي الليبرالي الذي تولي وزارة الاقتصاد حتي العام الماضي إن الشكوي من الفساد الحكومي لم تعد كما كانت من قبل وأن الفساد نوعين أولهما تقوم به الشركات الخاصة والأفراد الذين يرشون المسئولين ليغمضوا أعينهم عن مخالفة القوانين، والثاني هو الفساد النابع من الكرملين مباشرة لإفادة المسئولين بالدولة وأصدقائهم.. وكلا النوعين مدمر لروسيا وإن كان الثاني أشد خطرا.. ومع ذلك فإن استطلاعا للرأي شمل 106 شركات أجنبية عاملة في روسيا أوضح أن 82% منها راضية عن مناخ الاستثمار الروسي.. أما رجال الأعمال الروس فإنهم قد يحتجون ضد الفساد ولكنهم يواصلون استثمار أموالهم في روسيا كذلك فإن قيمة الاستثمارات الرأسمالية الثابتة في روسيا قد زادت في عام 2007 بنسبة 21% وهو ما يجعلنا نؤكد ازدهار الاستثمار في تلك الدولة حتي أن حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي دخلتها قد تضاعف في العام الماضي ليبلغ 8.27 مليار دولار بنسبة 2.2% من إجمالي الناتج المحلي. ولكن ما ينبغي التنبه له حقا هو تزايد اعتماد روسيا علي البترول والغاز.. فأرقام معهد التحليل الاقتصادي تقول إن نصيبهما من إجمالي الناتج المحلي قد تزايد من 7.12% عام 1999 ليصبح 6.31% في عام ،2007 كذلك فإن الموارد الطبيعية لاتزال تمثل 80% من جملة الصادرات الروسية. وإلي جانب ما تقدم فإن سوء توزيع الثروة والدخل في روسيا في تزايد مستمر وهنا تقول الأرقام إن الفجوة بين دخل أعلي 10% من السكان وأدني 10% في اتساع متصل ولكن الروس يغضون الطرف عن هذا القدر المتزايد من عدم المساواة لأن المتوسط العام للدخول في ارتفاع ولكن إذا توقف ارتفاع الدخول فإن ذلك سيهدد روسيا دون شك باضطراب اجتماعية نحتاج إلي مرونة كبيرة من الحكومة لوأدها قبل أن تحدث.