أزعجني كثيرا تصريحا قرأته لوزيرة التعاون الدولي السفيرة فايزة أبو النجا في جريدة "روز اليوسف" تقول فيه أن مصر لا يمكنها الاستغناء عن المنح والقروض الأجنبية بسبب الفجوة بين معدلات الإدخار والاستثمار.. فالتصريح يبدو لي محاولة من السيدة الوزيرة لتبرير أهميتها وقيمة عملها أكثر من كونه تبريرا اقتصاديا وسياسيا لتلك المنح والقروض وضرورتها للاقتصاد المصري. إلا أنسبب انزعاجي الرئيسي هو أن السيدة الوزيرة التي تمثل حكومة وتقول إنها تعمل جاهدة لرفع معدلات الاستثمار وتحسين معدلات النمو والظروف الاقتصادية الجاذبة للاستثمار الأجنبي، مازالت تفضل أن تصور الاقتصاد المصري علي أنه البطة "الكسيحة" العاجزة التي تحتاج "يا حرام" إلي المساعدات الأجنبية وبدونها لا يمكنها الحياة أو الاستمرار. ذلك كان يمكن أن نسمعه من الدول المانحة أو من المعارضة لتلك الحكومة، ولكن أن نسمعه من وزيرة تنتمي لحكومة الحزب الوطني فهو أمر مدهش وغريب وكأن الخلاف دائما يأتي من الداخل قبل الخارج. فالأرقام تقول إنه للحفاظ علي معدلات نمو 6 أو 7% فلابد من معدلات استثمار تصل وتتراوح ما بين 21 و 25% من الناتج القومي الإجمالي.. "وصلت إلي 21% مؤخرا" في وقت مازالت معدلات الإدخار فيه متدنية "تتراوح ما بين 12 - 14%" وبالتالي فإن العجز أو الفجوة هنا حوالي 10%.. كيف يمكن عبور تلك الفجوة؟ أولا بالاستثمار المباشر ثم غير المباشر "البورصة" وثالثا بالقروض وأخيرا بالمنح.. والأهمية في الترتيب السابق أهمية بالغة تعكس مدي إدراك القائمين علي السياسة الاقتصادية بأولويات العمل الاقتصادي فلا يمكن أن يكون الاعتماد علي المساعدات هو الأساس.. بل يجب أن يكون الاعتماد علي العمل هو الركيزة الأولي. أما إذا كانت الوزيرة تري عكس ذلك، فهو أمر يدعو للقلق حول منهجية السياسة المصرية. ويعكس التصريح الوزاري العظيم خلطا بين المنح والقروض وهو خلط غير علمي، حيث تعلم الوزيرة جيدا أن الاقتراض هو منهج اقتصادي معروف - طالما وضع في مستوياته الملائمة - تقوم به دول عديدة اكثر منا ثراء وقدرة اقتصادية. وان قدرة الدول علي الاقتراض بشروط افضل تعتمد اساسا علي كفاءتها الاقتصادية امام المنح فهي شأن اخر.. ولا توجد منح بلا شروط كما تقول السيدة الوزيرة فايزة ابو النجا. فالمانح هو دائما صاحب اليد العليا وهو صاحب الكلمة العليا في تنفيذ شروطه حتي لو اسميناه شريكنا في التنمية وصديقنا في الضراء او غير ذلك. لا منح بلا شروط .. ولا داعي لادعاء غير ذلك. اما الخلط الاكبر فهو ذلك الانطباع الذي تقدمه السيدة الوزيرة "السياسية" في حديثها انا لا يمكننا الاستغناء عن تلك المنح وهو امر غير صحيح. فالاقتصاد المصري يستطيع الاستغناء في اي لحظة عن تلك المنح وهي تعرف ذلك جيدا خاصة بعد ارتفاع معدلات الاستثمار الاخيرة ولا اظن ان رد الفعل تجاه خفض المعونة الامريكية واقتراح تحويلها الي وديعة الان يماثل نفس رد الفعل منذ سنوات مضت. فالتخلص من تلك المنح او المعونات هو في حقيقته تخلص من عبء ثقل الشروط والاشتراطات السياسية التي تعرف الحكومة .. جيدا أنها موجودة. هذا إلا إذا كانت السيدة الوزيرة تعرف عن الاقتصاد المصري وأرقامه غير الذي نعرفه.. وهي بالتأكيد أدري لأنها داخل المطبخ ونحن خارجه!! ان التصريحات السياسية لابد ان يكون لها معيار ومقاييس .. وليس في سبيل ان يبرر احد المسئولين اهمية وعدم قدرة الدولة الاستغناء عن اسهاماته نصدر للمواطن شعورا بالعجز والاستدانة والحاجه .. فبدلا من ذلك علينا تنمية شعور القدرة والقوة والحاجه لمزيد من العمل والانتاج وتحسين مناخ الاستثمار لجذب مزيد من الاستثمارات ورفع معدلات الادخار. لكن هذا لا ينطبق الا علي من يدركون فن اللعبة السياسية. ويبدو ذلك علي كثيرين صعب جدا.