علي فين؟ أو إلي أين؟ سؤال طرحه علينا أحد الأصدقاء من المنشغلين بالشأن العام وكان يود أن يستطلع آراءنا في هذا الأمر ولم يكن لدي الرجل رأي مسبق يريد أن يوصي إلينا به كما لم تكن لديه الرغبة التي لدي البعض في الحديث الطويل والتنظير الجميل لم تكن لديه باختصار تلك الشهوة في الكلام التي تستبد بالبعض أحيانا إلي درجة تمنعهم من الاستماع.. فهم فقط المتحدثون ولا يستمعون إلا إلي أنفسهم وقبل أن نشرع في التعبير عن آرائنا.. وجدتني أتوجه إلي الرجل مستوضحا بعض أبعاد السؤال فقلت له السؤال عن أين هل هو سؤال عن الطريق أم عن الاتجاه أم عن محطة الوصول التي نريد أن نصل إليها؟ والأمر الآخر الذي استوضحت الرجل فيه.. هو أن السؤال إلي أين؟ من الأسئلة المطروحة باستمرار فهل توقيت طرحه يمكن أن تكون له دلالة معينة يستمدها من الاعتبارات السائدة في المكان والزمان؟ وأوضح الرجل ببساطة شديدة أن السؤال الذي يطرحه يعني الطريق والاتجاه ومحطة الوصول بل ووسيلة أو وسائل النقل للوصول إلي تلك المحطة المستهدفة أما بالنسبة لتوقيت طرح السؤال فقد اتفق معي علي أن له دلالاته وذلك بعد أن تم اقرار التعديلات الدستورية وما صاحبها من مناقشات ومشاحنات وما ينتظر أن يترتب عليها من حراك سياسي ونتائج في الحياة والممارسات وما سوف يستتبعها من تشريعات حاكمة في مختلف شئوننا. هكذا تحدد الموضوع وأوضح الرجل أبعاد السؤال ومناسبته وكان علينا نحن ضيوفه أن نوضح رأينا ورؤيتنا في ذلك وقد انقسمت آراؤنا إلي ثلاثة اتجاهات علي حسب ما أمكن لي أن أصنفها في نهاية جلستنا.. وأعرضها هنا لسببين أساسيين أولهما أنها تمثل عينة من آراء بعض المهتمين بالشأن العام وكنت أود أن أفصح عن اسمائهم حتي يدرك القارئ أنهم شخصيات معتدلة وفاهمة ومجتهدة ولكنهم لم يسمحوا لي بذلك والسبب الثاني هو أن نتوجه ببصرنا إلي المستقبل ونناقش قضاياه وكيف يكون أكثر اشراقا.. ولعل في هذا دعوة للترحيب بكل الآراء التي تساهم في ذلك أو في التعقيب والتعليق وسوف يكون من المفيد أن نطرحها في هذه المساحة وبعد هذا التوضيح نعرض للاتجاهات أو التوجهات التي تضمنتها الاجابة عن السؤال إلي أين؟ أو علي فين رايحين؟ الاتجاه الأول: وهو الاتجاه المتفائل والذي يري أننا نتجه إلي حراك سياسي ومجتمعي أكثر فاعلية تتأكد فيه "دولة المؤسسات" بشكل واضح وهو أمر سوف يعكس نفسه علي أن تأتي القرارات متوازنة وأكثر شفافية فالحكومة أصبحت مطالبة بأن ينال برنامجها موافقة مجلس الشعب وإلا تم تغييرها.. ومجلس الشعب أصبح لديه مساحة أوسع من الصلاحيات في تعديل الموازنة العامة.. ورئيس الوزراء أصبحت صلاحيته أكثر ورئيس الدولة أصبحت صلاحياته أقل منها قبل التعديلات.. وهذا كله سوف يقود المجتمع إلي مشاركة أوسع من قبل منظمات "المجتمع المدني" فضلا عن أن "المحليات" اكتسبت صلاحيات أقوي وأكبر في ظل تلك التعديلات كل ذلك يعني أن المجتمع يتجه نحو طاقة أوسع من الأمل والحركة والمشاركة الفاعلة.. ويمكن أن أقول إن هذا الاتجاه الأول يعتمد علي ثلاثة عناصر في التفاؤل بالمستقبل.. وهي تفعيل دولة المؤسسات وتفعيل دور المحليات وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني.. كما يعتمد علي ثلاث آليات جديدة هي رقابة مجلس الشعب الأكثر تأثيرا علي الحكومة وتحسين عملية التمثيل لفئات المجتمع في المجالس الرقابية والشعبية والمشاركة المجتمعية الأوسع في مختلف الشئون العامة. الاتجاه الثاني وهو اتجاه أقل تفاؤلا من الاتجاه الأول وإن ظل في سيناريوهات التفاؤل.. وقد عبر عنه بعض أصحابه بأنه "التفاؤل الحذر" ويستند إلي أنه رغم تقديره لمنهج الإصلاح المتدرج وعدم القفز إلي خطوات غير محسوبة إلا أنه يري أن تلك المرحلة كانت تستحق مساحة من لحريات وآليات المشاركة أكبر مما حدث لاسيما وأن الأمر من وجهة نظر أصحاب هذا الاتجاه لم يكن يتطلب أكثر من اعطاء مساحة أكبر لرقابة القضاء حتي ولو تطلب الأمر أن تجري الانتخابات علي أكثر من يوم واحد.. كما كان يمكن عدم المساس بالمواد الخاصة بالحريات علي نحو ما ورد في تعديل المادة 179 هذا كل ما كان يتطلع إليه أصحاب هذا الاتجاه الثاني وهو "التفاؤل الحذر" ويبني أصحب هذا الاتجاه تفاؤلهم بعد ذلك علي أن التشريعات التي سوف تصدر في إطار التعديلات الدستورية سوف تؤكد أن اتجاه القيادة السياسية هو عدم النيل من حريات الأفراد بمختلف صورها.. وأن ما حدث من مناقشات في إطار عملية التعديلات الدستورية سوف يأخذه المشرع بعين الاعتبار عند وضع التشريعات الجديدة حتي يؤكد علي عدم النيل من حريات الناس وأن رقابة القضاء المسبقة وليست اللاحقة لابد منها حتي يشعر الناس بالأمن والأمان وهذا أحد أهم متطلبات الاصلاح السياسي بل والاقتصادي والاجتماعي لأن الحرية هي شرط لأية تنمية أو نهضة فالعبيد والخائفون لا يصنعون تنمية أو نهضة. الاتجاه الثالث: وهو اتجاه محايد لا يتفاءل ولا يتشاءم ولكنه يري أن الأمور كلها أصبحت في يد "أولي الأمر" ان أرادوا أن يضيقوا من نطاق الحريات فسيجدون من النصوص ما يساعدهم علي ذلك.. وان أرادوا أن يحافظوا علي صيانة الحريات فسيجدون من التفسيرات والمبررات ما يساعدهم علي ذلك.. والأمر كله أصبح مرهونا "بعملية التطبيق".. وحيث ان اختيار رئيس الدولة أصبح بالانتخاب الحر المباشر فإنه ولو من الناحية النظرية علي الأقل يمكن أن يحدث التوازن الواجب حيث لن يحرص الفرد علي اختيار رئيس يعلم أنه سيطيح بحرياته ولو حدث هذا مرة فلن يعيد انتخابه لمرة أخري ولكن ذلك كله مرهون بنزاهة عملية الانتخابات هذه كانت توجهات ثلاثة عزيزي القارئ لم تجد بينها ذلك التوجه الرافض لكل شيء والذي لا يري في الأمر كله إلا الظلام والاظلام وهذا عزيزي لم يكن موجودا بين الأفراد الذين جمعتهم تلك الجلسة ولعل هذا نوع من البوح بفتح الباء وسكون الواو أردت أن يكون حافزا علي الانشغال بالمستقبل والتساؤل بشأنه إلي أين؟ ويلزم أن نشارك جميعا في الاجابة.