شموخ صدام وكبرياؤه ورباطة جأشه يوم تنفيذ حكم الإعدام عليه في الثلاثين من ديسمبر الماضي يوم عيد الاضحي.. استدعت إلي ذاكرتي هذا الزعيم البطل يوم ان التقيته في بغداد في الاول من مايو سنة 1988.. المناسبة كانت ما أسمته العراق بيوم الحسم في المعركة التي جرت في "الفاو" مع إيران والتي جري بعدها الاتفاق علي وقف إطلاق النار. كان صدام رمزا في الالتزام والدقة.. في أعقاب لقائي معه قفلت راجعة الي فندق "المنصور" في بغداد الذي كنت أقيم فيه وما أن دلفت الي قسم الاستقبال حتي فوجئت بألبوم يضم صوري مع الرئيس صدام وبأن حديثي المسجل معه قد تم تفريغه وأودعت المادة مكتوبة في قسم الاستقبال بالفندق لتسلم لي حالما أصل ولأول وهلة انتابني الشك في أن يكون طاقم الرئيس صدام قد حذفوا من الحديث فقرات عند مراجعته، ولكن عندما قمت بسماع التسجيل من جديد وجدت الحديث كاملا لم تحذف منه كلمة واحدة. يومها أدركت السر في قوة هذا الزعيم.. التزام ودقة وموضوعية.. يدير بحسم فلا مساحة للفوضي أو التعثر او العشوائية.. قيادة نادرة.. اسطورة. هذا هو صدام حسين سنة 1988، وهذا هو نفسه الذي مثل أمام مقصلة الإعدام قويا شامخا لا يهاب أحدا ولا يخشي الموت. حماقة لا دواء لها حماقة بوش لا دواء لها.. الرجل يهرب من جريمة ليتورط في جريمة أخري.. إعدام "صدام" جرت كل تفاصيله ووقائعه تحت بصر "بوش" وبموافقة منه علي كل تفاصيله.. أمريكا هي التي اعتقلت "صدام" وبموجب اتفاقية جنيف فان صدام اعتبر أسير حرب ولكنها ساعدت علي ألا يمثل أمام محكمة دولية ووضعته تحت سطوة محكمة عراقية شكلتها كانت أبعد ما تكون عن العدالة فهي محكمة مسيسة. إعدام لائق؟! أرادت أمريكا ان تتنصل من الجريمة فأوكلت تنفيذها لحكومة "نوري المالكي" العميلة كي تتحمل هي الوزر، أناط بوش الامر للعراقيين كي يغسل يده من دم صدام، سلمه الي عملاء امريكا في العراق بدعوي ان القضاء العراقي هو الذي حكم والسلطة العراقية هي التي نفذت الحكم رغم ان الاحتلال هو الذي استباح العراق و احتلها واعتقل صدام وشكل المحكمة وفرض حكم الاعدام فرضا، ثم جاء "بوش" بعد ان وقع المحظور ليتحدث عن أنه كان يتمني لو شاهد الإعدام وهو ينفذ بشكل لائق، ثم ما لبثت واشنطن - بعد موجة التنديد التي اعقبت اعدام صدام ان دعت الحكومة العراقية الي التصرف بطريقة مناسبة في عملية تنفيذ الإعدام لكل من "برزان التكريتي" و"عواد البندر"!! حكومة عميلة حكومة "نوري المالكي" في العراق كانت حريصة علي أن تفعل كل ما يحقق لأمريكا مصالحها في المنطقة ولهذا قدمت كل التنازلات ثمنا لبقائها.. ورغم ان ادارة بوش احتلت الارض وأبادت وقتلت ودمرت وألغت السيادة ونشرت الطائفية توطئة لتجزئتها وتقسيمها الي كيانات عرقية وطائفية الا ان الحكومة مضت في مخططها غير عابئة بالعراق او بشعبه، فقط شرعت تمد الجسور لتحقيق المشروع الصهيوني الذي يمضي قدما في الاراضي الفلسطينية والذي سيكون بمثابة النموذج القياسي للمخطط الامريكي المعد للمنطقة العربية ككل، لينتهي الامر بتفتيت دول المنطقة وتقسيمها، ان كل ما تفعله الحكومة العميلة هو ضمان استمرارها وبقائها تحت المظلة الامريكية! صدام كسب الجولة كسب "صدام" الجولة هذه المرة أيضا.. سحب البساط من تحت أقدام جلاديه ممن ارادوا تشويه صورته قبل مماته وعمدوا الي استفزازه ولكنه ترفع عن نواقصهم ونزقهم وأثبت عن حق انه زعيم له قدره ومكانته وثقله، أما جلادوه فلم يكونوا الا رعاعا خسروا المسرح وخسروا الجمهور بعد ان خسروا انفسهم وبعد ان ظهروا للمشاهدين كأكلة لحوم البشر، وسيثبت لهم بعد حين ان إعدامه كان صفقة خاسرة لم يحقق لهم ما أرادوه، بل علي العكس أكسب "صدام" تأييد واحترام العالم وسجله كرمز سياسي وطني له ثقله واعتباره ويكفي انه راح ضحية التحالف بين الاحتلال والعمالة. من البربري والهمجي؟ أمريكا لم تدن كل ما يحدث في العراق بل باركته بوصفه احد مظاهر ديمقراطيتها العريقة التي أسبغتها علي العراق عندما احتلته، والغريب انه عندما ظهر اسيران امريكيان علي شاشة التليفزيون خلال ملحمة الغزو الامريكي للعراق ثار الامريكيون واتهموا العراقيين بالوحشية والبربرية والهمجية بدعوي ان مجرد ظهورهم علي شاشة التليفزيون يعد مخالفا لاتفاقيات جنيف في معاملة الأسري.. رغم ان الاسيرين كانا جالسين يحتسيان الشاي. الغرب مريض بالكراهية الغرب مريض بعقدة كراهية العرب والمسلمين.. ولهذا نجدهم يمجدون إعدام صدام ونسوا ان بريطانيا قد رفضت في يوم من الايام تسليم "أوغستو بيونشيه" للقاضي الاسباني لمحاكمته علي ما اقترف من جرائم في حق الإنسانية.. رغم ان التسليم لم يكن لإعدامه وانما لمحاكمته، اما حين يحدث هذا لزعيم كصدام فإن الجميع يركنون الي الصمت وقديما قالوا: السكوت معناه الرضا، شاهدوا عملية الشنق ورأوا الطقوس التي واكبتها والشعائر التي نطق بها اتباع فرق الموت من الجلادين الجدد وباركوها بصمتهم ونسي هؤلاء ان للموت حرمته.. ونسوا ان الموت هو المصير الحتمي للجميع واذا كان صدام قد فارق الحياة فانه ومن خلال أدائه تحول الي اسطورة ورمز يشار اليه بالبنان ويكفي ان العراق علي عهده كانت جنة الله في الارض اما عراق اليوم فحدث ولا حرج فقدت كل شيء علي يد الاحتلال وعملائه وتحولت الي وضع كارثي مات بنوها ودمرت بنيتها التحتية وتحولت ساحتها الي فوضي عارمة وانفلات أمني رهيب.. رحم الله صدام حسين.. الرمز والاسطورة.