وفد قطري يتوجه إلى القاهرة لاستئناف المفاوضات بشأن اتفاق هدنة في غزة    شبورة مائية وأمطار خفيفة.. الأرصاد تكشف أبرز الظواهر الجوية لحالة الطقس اليوم الثلاثاء 7 مايو 2024    ياسمين عبد العزيز تكشف عن سبب طلاقها من أحمد العوضي    3 شهداء في قصف إسرائيلي استهدف منزلًا لعائلة "الدربي" غرب مدينة رفح    ضابط شرطة.. ياسمين عبد العزيز تكشف حلم طفولتها وعلاقته بفيلم «أبو شنب»    صدقي صخر: تعرضت لصدمات في حياتي خلتني أروح لدكتور نفسي    ميلكا لوبيسكا دا سيلفا: بعد خسارة الدوري والكأس أصبح لدينا حماس أكبر للتتويج ببطولة إفريقيا    خبير لوائح: أخشي أن يكون لدى محامي فيتوريا أوراق رسمية بعدم أحقيته في الشرط الجزائي    شبانة ينتقد اتحاد الكرة بسبب استمرار الأزمات    سعر الحديد والأسمنت اليوم في مصر الثلاثاء 7-5-2024 بعد الانخفاض الأخير    مصر تستعد لتجميع سيارات هيونداي النترا AD الأسبوع المقبل    وصول بعض المصابين لمستشفى الكويت جراء استهداف الاحتلال حي التنور شرق رفح    وسائل إعلام أمريكية: القبض على جندي أمريكي في روسيا بتهمة السرقة    رامي صبري يحيي واحدة من أقوى حفلاته في العبور بمناسبة شم النسيم (صور)    كاسونجو يتقدم بشكوى ضد الزمالك.. ما حقيقة الأمر؟    العاهل الأردني: الهجوم الإسرائيلي على رفح يهدد بالتسبب في مجزرة جديدة    كريم شحاتة: كثرة النجوم وراء عدم التوفيق في البنك الأهلي    صدقي صخر يكشف مواصفات فتاة أحلامه: نفسي يبقى عندي عيلة    أمين البحوث الإسلامية: أهل الإيمان محصنون ضد أى دعوة    وكيل صحة قنا يجري جولة موسعة للتأكد من توافر الدم وأمصال التسمم    لا تصالح.. أسرة ضحية عصام صاصا: «عاوزين حقنا بالقانون» (فيديو)    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الأخير.. أسعار الذهب والسبائك اليوم الثلاثاء 7 مايو بالصاغة    مصرع سائق «تروسكيل» في تصادم مع «تريلا» ب الصف    صندوق إعانات الطوارئ للعمال تعلن أهم ملفاتها في «الجمهورية الجديدة»    عملت عملية عشان أخلف من العوضي| ياسمين عبد العزيز تفجر مفاجأة.. شاهد    صليت استخارة.. ياسمين عبد العزيز تكشف عن نيتها في الرجوع للعوضي |شاهد    التصالح في البناء.. اليوم بدء استلام أوراق المواطنين    النيابة تصرح بدفن 3 جثامين طلاب توفوا غرقا في ترعة بالغربية    مصرع شخص وإصابة 10 آخرين في حادثين منفصلين بإدفو شمال أسوان    اللواء سيد الجابري: مصر مستمرة في تقديم كل أوجه الدعم الممكنة للفلسطينيين    وفد قطري يتوجه للقاهرة لاستئناف المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وحماس اليوم    الدوري الإنجليزي، مانشستر يونايتد يحقق أكبر عدد هزائم في موسم واحد لأول مرة في تاريخه    مصر للطيران تعلن تخفيض 50% على تذاكر الرحلات الدولية (تفاصيل)    برلماني يطالب بإطلاق مبادرة لتعزيز وعي المصريين بالذكاء الاصطناعي    عاجل - تبادل إطلاق نار بين حماس وإسرائيل قرب بوابة معبر رفح    القومية للأنفاق تبرز رحلة بالقطار الكهربائي إلى محطة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية (فيديو)    "يا ليلة العيد آنستينا وجددتي الأمل فينا".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 وأجمل عبارات التهنئة بالعيد    العمل العربيَّة: ملتزمون بحق العامل في بيئة عمل آمنة وصحية كحق من حقوق الإنسان    سؤالًا برلمانيًا بشأن عدم إنشاء فرع للنيابة الإدارية بمركز دار السلام    إبراهيم عيسى: لو 30 يونيو اتكرر 30 مرة الشعب هيختار نفس القرار    الأوقاف تعلن افتتاح 21 مسجدا الجمعة القادمة    ب800 جنيه بعد الزيادة.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي الجديدة وكيفية تجديدها من البيت    عملية جراحية في الوجه ل أسامة جلال    فيديوهات متركبة.. ياسمين عبد العزيز تكشف: مشوفتش العوضي في سحور وارحمونا.. فيديو    فرح حبايبك وأصحابك: أروع رسائل التهنئة بمناسبة قدوم عيد الأضحى المبارك 2024    استبعادات بالجملة وحكم اللقاء.. كل ما تريد معرفته عن مباراة الأهلي والاتحاد السكندري    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل كل قضاء قضيته لنا خيرًا    يوسف الحسيني: إبراهيم العرجاني له دور وطني لا ينسى    في 7 خطوات.. حدد عدد المتصلين بالراوتر We وفودافون    رغم إنشاء مدينة السيسي والاحتفالات باتحاد القبائل… تجديد حبس أهالي سيناء المطالبين بحق العودة    هل يحصل الصغار على ثواب العبادة قبل البلوغ؟ دار الإفتاء ترد    بالأسماء، إصابة 16 شخصا في حادث الطريق الصحراوي الغربي بقنا    بعد الفسيخ والرنجة.. 7 مشروبات لتنظيف جسمك من السموم    للحفاظ عليها، نصائح هامة قبل تخزين الملابس الشتوية    كيفية صنع الأرز باللبن.. طريقة سهلة    أستاذ قانون جنائي: ما حدث مع الدكتور حسام موافي مشين    في 6 خطوات.. اعرف كيفية قضاء الصلوات الفائتة    عقوبة التدخل في حياة الآخرين وعدم احترام خصوصيتهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اعترافات عبدالحليم خدام بالوثائق "2"
نشر في روزاليوسف الأسبوعية يوم 25 - 12 - 2010


سوريا النظام الذي فقد أمنه
كانت الليلة السابقة علي ليلة رأس السنة 31 ديسمبر 2005 هي الليلة التي قرر فيها «عبدالحليم خدام» أن يتقمص دور «سانتاكلوز» علي طريقته .. فحين ظهر نائب رئيس الجمهورية المخلوع علي شاشة قناة «العربية» في تلك الليلة كان يحمل معه لقادة الحكم في سوريا كثيرا من الهدايا المسمومة والألعاب السياسية المفخخة.
«الرجل الثاني » الذي كان قد خلع قسرا قبل 170 يوما (12 يوليو 2005» بدأ حواره بسحابة دخان مخدر حين قال إنه في باريس «لا مبعدا ولا مبتعدا»، وإنما جاء ليكتب مرحلة مهمة من تاريخ سوريا والمنطقة، ودافعه إلي ذلك هو أن «تطلع الأجيال والناس علي هذه الحقائق والوقائع الصحيحة»!.
نفي «خدام» أن تكون علاقته بالرئيس «بشار الأسد» متوترة بأي شكل، أو يكون قد تعرض إلي تهديد أو مضايقة .. قال إن الرئيس استقبله بود قبل مغادرته سوريا بيومين ويعرف أنه سيقيم طويلا في باريس (من أجل الكتابة!) ولم ينس «خدام» أن يؤكد: «سأعود إلي دمشق وسوريا فهي في قلبي وعقلي».
ولكن سرعان ما بدأ «سانتاكلوز» السوري في تغيير تكتيك الحوار، وبدأ في إخراج «هداياه» بتحذير لشركائه السابقين في الحكم:
«لدي الكثير لأقوله.. ومن يحاول أن يفكر بمحاكمتي يعرف ما لدي .. يعرف ما لدي جيدا.. ويعرف أن لدي أمورا كثيرة وخطيرة» .
المؤكد أنه وبعد 5 سنوات من هذا الحوار لم يعد «خدام» إلي سوريا ، والأرجح أنه لن يعود أبدا ( علي الأقل وهو علي قيد الحياة) .. والمؤكد أيضا أن الذين وجه إليهم تحذيره قرروا عكس ما قدر، فقد فتحت ملفاته فورا وفيما بعد حوكم.. ربما لأنه في ذلك الحوار الذي قرر أن يكون فاتحة عام جديد لقادة سوريا أفرط في «الهدايا والألعاب» .. قال «خدام» كلاما كثيرا عن «الدولة السائرة في طريق مليء بالأوهام وظلام دامس» وعن الإصلاح الذي توقف فازداد التسيب والفساد بين القريبين من السلطة .. قال إن القانون «غائب» ، و «الحاضر» هو مصالح الدائرة التي تحيط بالحكم، وأعطي أمثلة لثروات تصخمت بالمليارات من العدم .. وتحدث عن الشعب السوري الذي يعيش نصفه تحت خط الفقر والنصف الآخر علي التوازي مع خط الفقر، وقال إنه شعب «حريته مصادرة وممنوع عليه العمل السياسي وتتسلط عليه أجهزة الأمن».
---
كان وقع هذا الحوار كالزلزال في سوريا.. ربما لأن الناس هناك لا يتذكرون أنهم شاهدوا علي مدي سنوات طويلة جدا من يتحدث عن كواليس الحكم المصمتة تماما، ولكن الحقيقة فإن ما قاله «عبدالحليم خدام» وقتها وفيما بعد هو ذلك النوع من الكلام الذي اعتاد المخلوعون عن السلطة قسرا في المنطقة العربية والشرق الأوسط أن يقولوه.. وهو نوع من الكلام يصدقه الناس عادة ويتعاملون معه كحقائق ثابتة لكنهم لايصدقون صاحبه أبدا، فهو بالنسبة لهم مجرد « شريك اختلف مع شركائه فأوشي بهم» ، لكنه مثلهم في الأول والأخير .. لذلك فمصداقيته الشخصية ساقطة بينما مصداقيته في الموضوع تامة!
إنها إحدي المفارقات التي تعودنا عليها نحن مواطني هذه المنطقة من العالم .. ولكن السؤال: ما هي الحالة النفسية والذهنية التي يمكن أن يكون عليها رجل مثل «عبدالحليم خدام» في لحظة كتلك التي يمارس فيها انقلابه الإعلامي؟
لا ندري .. فلا أحد من هؤلاء كشف لنا هذا أبدا .. ولكن كل من شاهدوا المقابلة الشهيرة ل «خدام» مع «العربية» استوقفهم أنه كما سجل في تقارير صحفية كان «وكأنه جالس علي كرسي الرئاسة .. ممسكا بصولجان الحكم.. أنيقا في صالة فارهة وحوله تمثالان .. نبرته واعتداده بنفسه يظهران شعوره بأنه لازال نائبا للرئيس ويطمح في أن يكون رئيسا».
في التحليل النفسي ربما تكون هذه الحالة نوعا من «رفض الإقصاء» .. عدم تصديق الواقع، وهو نظريا وضع يعقبه انهيار عندما يصبح الواقع مؤكدا، وقد يكون شيئا من هذا حدث لعبد الحليم خدام فبعد أشهر قليلة كانت هناك تقارير تتحدث عن معاناته من اكتئاب نفسي وارتفاع في الضغط مما ينذر بالخطر علي صحته، خاصة مع تعرضه لأزمة قلبية سابقة.
هذا الوضع النفسي الذي يدفع الجسد فاتورته قد ينتهي بأن يلتهم المرض صاحبه .. وكثيرا ما رأينا رجالا حاصرتهم الأمراض بعد الإقصاء من السلطة فأبدلتهم ثم قضت عليهم في زمن قياسي، خاصة هؤلاء الذين لم يغادروا السلطة «جماعة» مع تغيير الأنظمة التي يمثلونها، بل خرجوا هم واستمر النظام.. الشعور بالاحتقان والرغبة في الانتقام هنا تكون في حدها الأقصي.. فالشخص المبعد يشعر أنه دفع الثمن وحده .
وفي الحقيقة لانستطيع الجزم إن كان هذا التحليل ينطبق علي «عبدالحليم خدام» أم أن «الرجل الثاني» الأقوي استعاد توازنه ودخل في مرحلة التكيف مع الواقع بما مكنه من بدء حرب استنزاف مع نظام كان أحد أعمدته من قبل.. لا ندري ، ولكن المؤكد أن مؤلفه الذي بين أيدينا الآن «التحالف السوري الإيراني والمنطقة» والذي يطلقه بعد 5 سنوات من إقصائه يتضمن درجة رفيعة من اللياقة الذهنية والسياسية.
---
وإذا كانت صورة سوريا في كتاب «عبدالحليم خدام» تتراوح بين الدولة التي تسعي سعيا مشروعا لتحقيق مصالحها الاستراتيجية في المنطقة وتؤدي أحيانا أدوارا إيجابية في القضايا الإقليمية ( وفق عرضه وتقديره) .. وبين الدولة «المتورطة» لأن نظامها لديه مخاوف مرعبة تجاه أمنه الشخصي .. فإن إيران علي العكس من ذلك تماما تدرك بالضبط ما تريده إقليميا وتحققه مرحليا منذ قيام «الجمهورية الإسلامية» عام 1979 وحتي الآن .. وإعجابه الشخصي بهذا النموذج رغم إدراكه ورصده لمخاطره الشديدة حاضر دائما.
هل من الجائز القول أن سوريا مستعدة دائما لقبول «زعيم ملهم» من خارجها ؟ حدث هذا علي المستوي الشعبي مع الرئيس جمال عبدالناصر.. وحدث علي مستوي القيادة مع «آية الله الخوميني» الذي لا تخفي حالة انبهار «عبدالحلم خدام» به وهو يصف تفصيليا وقائع لقائه الأول به . . يقول نائب الرئيس السوري الذي كان وقتها وزيرا للخارجية:
«في مطلع شهر أغسطس 1979 تلقيت دعوة من وزير خارجية إيران الدكتور إبراهيم يزدي، وقد وصلت طهران في الخامس عشر من أغسطس... رافقني الدكتور يزدي في اليوم الثالث للزيارة إلي قم لمقابلة آية الله الخوميني، وبذلك كنت أول مسئول سوري، بل المسئول السوري الوحيد الذي اجتمع به ، وصلنا ظهرا وتوجهنا إلي منزل قائد الثورة الإسلامية في حي شعبي ودخلنا منزلا بسيطا في ذلك الحي، وفي مدخل المنزل غرفة صغيرة فيها مكتب وطاولة يجلس عليها شيخ، وبعد أن سلمنا عليه دخلنا إلي غرفة ثانية صغيرة طولها لايتجاوز المترين والنصف وعرضها كذلك وعلي أرضها بساط عادي، وكان الإمام الخوميني جالسا فنهض لاستقبالنا .. كان الرجل يجلس علي الأرض وكذلك فعلنا، كان يستمع إلي محدثيه العرب باللغة العربية ويجيبهم بالفارسية .. تحدث آية الله الخوميني حديثا قصيرا، ولكنه كان حازما وواضحا، وأكد أن الثورة الإسلامية حققت انتصارها علي الطاغوت والظلم اعتمادا علي الشعب، وأن الثورة ستكون مع المظلومين والمحرومين، وأنها ستقف إلي جانب الشعب الفلسطيني وستواجه قوي الاستكبار العالمي، وأن المسلمين سينتصرون علي الظلم والعدوان والقهر... كانت المقابلة قصيرة ورمزية، لكنها بالغة الأهمية من حيث معرفتي تصميم الرجل الذي لمسته لدي كل عبارة كان ينطق بها، كان واثقا بالنفس وواثقا بالنصر النهائي لثورته .. لقد خرجت وأنا واثق أن هذا الرجل سيحقق الكثير من طموحاته فهو لايأكل أكثر مما يأكله فقراء إيران ولايلبس أفضل مما يلبسه عامة الناس، ولا يجلس علي مقاعد الحرير، ولا يعيش في قصور مليئة بالأضواء والتحف، من الصعب أن يهزم لأن أنماط حياته وتفكيره كانت سابقة زمنه».
---
حالة الانبهار غير خافية بصرف النظر عن الجملة الأخيرة التي يصف فيها تقشف «الخوميني» في ضربة تحت الحزام يريدك من خلالها أن تستدعي في ذهنك مقارنة لم يذكرها مع نمط مختلف من الحياة يمكن أن يكون قادة الحكم في سوريا يعيشونه.
علي كل حال فإنه وبعد 31 سنة من هذه المقابلة حققت إيران ما قاله الخوميني ولكن في اتجاه آخر فقد مدت أذرعتها في المنطقة العربية بعد أن امتطت سوريا تحديدا، وفلسطين لم تتحرر.. لم يحررها المسلمون، بل إن «حماس» المدعومة إيرانيا هي الآن أكثر ما يعمق الأزمة الفلسطينية ويجعلها عصية علي الحل .. أما المظلومون والمحرومون الذين ستقف معهم «الثورة الإسلامية» التي أسقطت الطاغوت فإن «عبد الحليم خَّدام » وبعيدا عن انبهاره يدرك أن هذا لم يحدث، بل يرصد عكسه تماما وهو يقيم بوعَّي وحنكة النظام الإيراني القائم فهو: «نظام شمولي لأن سلطة القرار فيه مركزة بيد الولي الفقيه المرشد الأعلي الذي يستمد سلطته من التفويض الديني».
.. وكما يقول نصا :
«القيادة الإيرانية أخفقت في سياساتها الداخلية... لقد كشفت الأحداث التي جرت بعد الانتخابات الرئاسية في 2009 حجم الخلل والثغرات في البلاد، كما أبرزت تجاهل التطورات المهمة في فكر وسلوك الإيرانيين خلال ما يقرب من ثلاثة عقود، ولم تأخذ في الاعتبار بصورة خاصة ما يلي :
أولا : الشعب الإيراني الذي أسقط نظام الشاه للخلاص من الظلم والمعاناة والحرمان والذي تحمل أعباء الحرب التي فرضها نظام صدام حسين علي إيران، من حقه بعد وقف الحرب أن يتمتع بمزايا السلم وأن يقطف ثمار الثورة التي كافح من أجل انتصارها.. كان الإيرانيون يعرفون حجم ازياد مواردهم عبر ازدياد أسعار النفط، وفي الوقت نفسه كانت تزداد معاناتهم ويزداد فقرهم، كما اتسعت دائرة انتشار البطالة.. كان الاهتمام المركزي للقيادة الإيرانية منصبا علي الأوضاع الخارجية وعلي بناء القوات المسلحة... وكان علي القيادة أن تبقي في ذاكرتها قوة الشاه العسكرية والتي أسقطها الشعب.
ثانيا: إن هامش الحرية الذي منحته الثورة للشعب الإيراني أتاح لأجيال جديدة عبر وسائل الإعلام والبريد الإلكتروني والإنترنت أن تري صورة أخري في العالم الخارجي وأنماط حياة مختلفة.. هذه الأجيال أدركت أن هامش الحرية المتاح لها لا يتناسب مع تطلعاتها.. صحيح أن جزءا مهما من تلك الأجيال بقي محافظا متأثرا بالثقافة الإسلامية، ولكن في كل الأحوال هذا يعني أن المجتمع الإيراني يعاني حالة من الانقسام في الأجيال الجديدة وهنا تكمن المشكلة الكبري.
ثالثا : الخطأ الآخر الذي ارتكبته القيادة الإيرانية أنها اعتبرت تطوير النظام تغييرا في نظام الجمهورية الإسلامية والأسس التي قامت عليها دون أن تأخذ بالاعتبار أن جمود النظام يؤدي إلي هوة بينه وبين الشعب الذي لا يمكن تجميد نموه وتطوره.
---
في كل الوقائع والأحداث التي يتعرض لها «عبد الحليم خدام» تفصيليا في شهادته الموثقة، والتي تتعلق كلها بقضايا وتوترات كبري في الشرق الأوسط بدءا من الحرب العراقية الإيرانية ووصولا إلي الملف النووي الإيراني الذي تقف فيه «الجمهورية الإسلامية» الآن علي المحك، ومرورا بالغزو العراقي للكويت، وزرع دولة حزب الله الإيرانية في لبنان ، والموقف من الحرب الأمريكية علي الإرهاب في أفغانستان، وإشعال فتيل «حماس» في فلسطين، وإسقاط نظام صدام حسين في العراق واللعب علي كل فصائل المعارضة في هذا النظام، والمناورات المستمرة مع دول الخليج ترغيبا وترهيبا.. في كل ذلك ستكتشف - فيما اعترف به وفيما ذكره دون اعتراف- كارثية التحالف السوري الإيراني علي المنطقة العربية تحديدا، وأن الجسر السوري الذي ركبته إيران هو الذي عًجًّل بتوغلها كطرف وكمحرك في كل المعادلات وهو أحد الأذرعة التي تبني بها طموحها الإقليمي المدمر لإيران وللمنطقة... وستدرك أن سوريا تحتل في هذا التحالف موقعاً بين «التورط» و «التبعية» وأنها دائماً تتحرك كجبهة واحدة مع إيران.. حتي في مواقف الأخيرة مع دول الخليج تحديداً كانت سوريا تلعب دوراً أقرب إلي الوسيط الذي يسهل تحقيق الأهداف الإيرانية وأحياناً متحدثاً باسمها.
---
هذه الحالة من التورط - وفيما بعد قبول التبعية - بدأت منذ اللحظة الأولي، وبعد أشهر قليلة من قيام الجمهورية الإسلامية.. وبوضوح يقول «عبدالحليم خدام»:
«في تلك المرحلة كانت الخلافات عميقة بين القيادتين السورية والمصرية بسبب توقيع معاهدة الصلح مع اسرائيل كما كانت العلاقات السورية العراقية في أسوأ حالاتها، بالإضافة إلي توتر الوضع في لبنان مع الجبهة اللبنانية من جهة، ومع منظمة التحرير الفلسطينية من جهة ثانية، ومع اسرائيل من جهة ثالثة.... كانت خياراتنا محدودة: الحرب مع اسرائيل غير ممكنة بسب تغيير عناصر أساسية في المعادلة بعد خروج مصر والخلاف مع العراق مما أدي إلي اختلال كبير في توازن القوي كما أن تحريك المقاومة للاحتلال في سوريا من الناحية الموضوعية لم يكن ممكناً بسبب طبيعة النظام وعدم قدرته علي تحمل نتائج المقاومة،فالمقاومة تتطلب وضعاً شعبياً مهيأً لتحمل الأعباء،كما تتطلب نظاماً سياسياً يرتكز علي الشعب وهذا الأمر غير ممكن لأن نظام الحكم قائم علي استئثار رئيس الدولة بالسلطة وبالقرار».
---
إنه إذن نظام لايستطيع أن يدخل حرباً لتحرير أرضه المحتلة (الجولان) ولا أن يشعل مقاومة للمحتل الإسرائيلي.. وهو أيضاً - كما يذكر «عبدالحليم خدام» - صراحة: «لايستطيع أن يتحمل تبعات السلام حتي لا يحمل الطائفة التي ينتمي إليها وهي أقلية في البلاد (الطائفة العلوية) المسئولية التاريخية لمتطلبات السلام مع إسرائيل».
كارثية التحالف وموقع سوريا التابع فيه ودوافع التورط ستجدها حاضرة علي مدي 404 صفحات هي كل صفحات هذا الكتاب الخطير.. وحسبما يعترف «خدام» أو يقرر:
- هناك تناقض عقائدي بين النظام السوري العلماني ونظام إيران الإسلامي.
- أحد الأهداف المباشرة للتحالف كان إسقاط النظام العراقي وإقامة نظام صديق لسوريا وإيران ومقبول في الدول العربية!!
- لم يكن في ذهن سوريا عندما اتخذت قراراً بالتحالف أن تشكل مع إيران قوة إقليمية لتحرير فلسطين.
- لم تكن لدينا آنذاك طموحات لتحرير فلسطين وإنما كانت طموحاتنا مركزة علي استنزاف إسرائيل عبر المقاومة في لبنان.
- بينما : «القيادة الإيرانية لديها استراتيجية واضحة تهدف إلي بناء دولة قوية يمتد نفوذها من البحر الأبيض المتوسط إلي حدود أفغانستان».
- بالمقابل لم تكن لدي قيادة النظام في سوريا طموحات كبري وكانت الحرب أخر الأمور التي تفكر فيها.
- عندما تتحول الدولة إلي مزرعة تصبح بدون جدران حماية وعندما يفقد الشعب دوره تصبح الدولة عارية من كل أسباب الحماية.. لقد سقطت كل طموحات النظام.
- سوريا ساهمت في عدم تحول الحرب بين إيران والعراق إلي حرب إيرانية عربية.
- كان أكثر ما يقلق الرئيس حافظ الأسد الخوف علي النظام، وكان خوفه متقدماً علي القضايا الأخري في تلك المرحلة، بما في ذلك القضايا ذات الصلة بالوحدة الوطنية.
- من خلال هذا الخوف جاءت أهمية لبنان في عقل الرئيس «حافظ»، فلبنان يمكن أن يكون ساحة يستخدمها أعداء سوريا.... لم يكن في ذهنه ضم لبنان إلي سوريا... وإنما كان الأمر يتعلق بالإمساك في لبنان وتوجيه سياساته الخارجية!!
- لم يكن قلقاً من النفوذ الإيراني كما لم يكن في ذهنه أن إيران تبني قاعدة عسكرية وسياسية في لبنان تهدف لخدمة استراتيجيتها، ولم يكن في ذهنه أن لدي إيران طموحاً في التوسع الإقليمي.
-دائماً كان في ذهنه صدام حسين من ناحية ولبنان (التي لايثق في أغلب قياداتها) من ناحية أخري.
---
باعتبار أن نتائج الحروب تحسم بتحقيق الأهداف منها ، فقد انتصرت إيران في حربها مع العراق التي استمرت ثماني سنوات «1980-1988» علي أساس أن هدف «صدام حسين» من هذه الحرب كان إسقاط النظام الإيراني وهو ما لم يحدث.. وفيما بعد أثبتت الوقائع أن هزيمته في «قادسيته» مع إيران كانت أحد أهم الأسباب التي دفعته إلي أحمق عمل في تاريخ العرب الحديث وهو محاولته غزو الكويت 1990 بما جره من مصائب علي المنطقة.. وإلي جانب جميع الأسباب المنطقية والمقنعة التي جعلت كل الدول العربية تقريبا تقف ضد «صدام حسين» وغزوته الخرقاء.. كان لدي سوريا سبب خاص إضافي وهو خشيتها من أي تقارب يمكن أن يحدث بين «عراق صدام» وبين حليفتها «أو كفيلتها» إيران في إطار سعيه لكسب أي أطراف إلي جانبه. هنا يقول «عبد الحليم خدام»:
«نشرت وسائل الإعلام أنباء عن اتصالات عراقية - إيرانية قدم خلالها صدام حسين تنازلات كبيرة لإيران لتحييد موقفها أو زجها معه إن تمكن.. كان علينا التحرك بسرعة، رغم قناعتنا باستحالة لقاء جدي بين البلدين «العراق وإيران» بسبب ما تركته الحرب بينهما من آلام وسلبيات عميقة، غير أنه يجب ألا ننطلق دائما من أن الخلافات الدامية لا تقود إلي اتفاقات كبيرة».
---
بناء علي هذه المخاوف السورية تقرر قيام نائب الرئيس «عبد الحليم خدام» ووزير الخارجية «فاروق الشرع» بزيارة إلي طهران في 15 أغسطس .1990 وقد تركز الجهد السوري خلال هذه الزيارة علي إجهاض أي نية يمكن أن تكون لدي الإيرانيين لاستيعاب «صدام حسين ».. وبعد تفاصيل كثيرة لهذه الزيارة يعرضها «خدام» تفصيليا يورد أنه قال لنائب الرئيس الإيراني وقتها د. حسن حبيبي :
«جئنا إلي إيران لهذا السبب، كيف نرتب الأمور فيما بيننا لنشكل قوة مؤثرة ورادعة في المنطقة، وتحسب أي جهة مائة حساب قبل التورط معها في ضوء نتائج غزو العراق للكويت.. وهذه النتائج ستستمر آثارها عشرات السنين.. جماعة الخليج سيكونون أكثر التصاقا بنا.. بسوريا وإيران، ولذلك نستطيع الآن أن نرتب الوضع الراهن، والوضع المستقبلي للمنطقة وهذا سينعكس لمصلحة العالم الإسلامي كله ».
---
وغني عن القول أن تقديرات «خدام» لم تتحقق، فلا دول الخليج ارتبطت بسوريا وإيران ولا استطاع التحالف الشاذ أن يحقق لسوريا أي تأثير.. ولا بالقطع كان فيما جري من أحداث بعد ذلك أي مصلحة للعالم الإسلامي.
في هذا الجزء من كتابه «التحالف السوري الإيراني والمنطقة» ينشر «عبد الحليم خدام» مجموعة وثائق خطيرة هي نصوص الرسائل المتبادلة بين «صدام حسين» وقادة إيران «علي خامنئي وهاشمي رفسنجاني تحديدا» قبيل قيامه بغزو الكويت وفي إطار سعيه لتهدئة الأجواء مع إيران.. والمؤكد أن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : من أين حصل «خدام» علي هذه الوثائق ؟ والإجابة المفترضة هي : قد يكون ذلك من الجانب الإيراني نفسه أو قد يكون حصل عليها بعد سقوط نظام «صدام حسين» بشكل أو بآخر.. ونحن ننشر هنا نص أولي رسائل «صدام»،لا لأهميتها الوثائقية فقط، ولكن أيضا لأنها تكشف كيف يمكن أن يحكم «دجالّون» و«مرضي بارانويا» و«أفاقون» شعوبا عربية :
سيادة علي خامنئي سيادة هاشمي رافسنجاني السلام عليكم
سبق لي أن خاطبتكم في مناسبات سابقة، أثناء الحرب ، بصورة غير مباشرة عبر وسائل إعلام العراق التي كانت الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامنا لإيصال ما نريد قوله لكم، كما كنت أستمع إلي ما تقولونه عبر وسائل إعلامكم بالمقابل، وكانت آخر مبادرة توجهنا بها إليكم بنية لا ريب فيها إلي تحقيق السلام الكامل والشامل، هي تلك التي أعلناها في الخامس من كانون الثاني «يناير» 1990 غير أننا لم نهتد معا حتي الآن إلي ما نرجوه من سلام بين بلدينا، لنغادر سوية مآسي الحرب واحتمالات اندلاعها من جديد، وأنه لأمر مفهوم أن تحيط الظنون والهواجس والتفسيرات المتشككة بما هو خيّر وما يمكن البناء عليه من آمال.. والآن ومن غير إعادة لما سبق أن قلناه من وجهة نظر كي تقولوا أنتم بالمقابل ما لديكم من وجهته، ولكي لا يندفع الحوار بعيدا عن ميدانه وأغراضه البناءة، ويتجه نحو المجادلة وتبرز فيه عوامل الاختلاف للتغلب علي ما نرجوه من اتفاق علي تحقيق السلام الفعلي والشامل والفوري لا بين العراق وإيران وحسب، بل بين الأمة العربية وإيران إن شاء الله.
أخاطبكم هذه المرة مباشرة لأقترح عليكم في هذا الشهر المبارك الذي يصوم فيه المسلمون، وهم يتجهون إلي الفوز برضا الرحمن سبحانه وتعالي، عقد لقاء مباشر بيننا يمثلنا فيه: عبد الله صاحب هذه الرسالة، السيد عزت إبراهيم وفريق من معاونينا، ويمثلكم فيه السيدان علي خامنئي وهاشمي رافسنجاني وفريق من معاونيكم، كما أقترح أن يعقد اللقاء في مكة المكرمة قبلة المسلمين في الصلاة إلي الله والبيت العتيق الذي بناه سيدنا إبراهيم عليه السلام، أو في أي مكان آخر يتم الاتفاق عليه بيننا لنعمل بعون الله علي تحقيق السلام الذي تنتظره شعوبنا والأمة الإسلامية جمعاء، ونوفر بذلك دماء قد تسيل مرة أخري لأي سبب كان، فمن بين الاحتمالات التي يحملها الموقف أن تسعي القوي التي كانت لها يد في الفتنة التي وقعت بين إيران والعراق إلي تجديد الحرب مرة أخري بما يبعد السلام عن بلدينا.
وإنكم لابد تتابعون التهديدات التي يتعرض لها العراق والأمة العربية من جانب الصهيونية وبعض الدول العظمي والكبري، ولاشك أنكم تعرفون أن الهدف الأساسي من هذه التهديدات هو إبقاء يد الكيان الصهيوني طليقة لتعيث في الأرض فسادا، ولتكون قادرة علي البطش بمن يعترض سبيل الباطل وينهره ويصده عن رغباته وأطماعه الشريرة في المنطقة، ويسعي لإزالة احتلاله لأرض فلسطين العربية والقدس الشريف العزيز علي كل مسلم، بل وعلي كل من يؤمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر.
إن هذه القوي الشريرة التي نأمل أن تخيب آمالها وتطيش سهامها بعون الله لابد أن تعمل علي إعادة الصراع الدامي المسلح بين إيران من جانب والعراق والأمة العربية من جانب آخر، ولديها ما لديها من وسائل لتحقيق ذلك، وعند ذلك لن يخسر المسلمون جميعا فرصة توجيه إمكاناتهم وما لديهم من قدرات لتحرير مقدساتهم في فلسطين وحسب، بل سيخسرون الكثير والكثير مما عندهم.
إننا نري بلوغ ما يعتبره العراق حقا، وبلوغ ما تراه إيران حقا، متاحا لنا في اللقاء المباشر بيننا والذي يقطع الطريق علي المتربصين الساعين إلي تعكير الرغبة في السلام، إذا ما اتجهت النيات باتجاه صدق إلي السلام وفق ما يرضاه الله لنا وترضاه شعوبنا، ومن جانبنا فإن هذه النية متوفرة لدينا بإيمان عميق ومستقر، وليس فيها غير الرغبة في الحصول علي حقنا الثابت المتوازن مع حقكم الثابت.
وإني لأقترح عليكم، وعلي قاعدة خير البر عاجله أن يتم اللقاء في ثاني أيام عيد الفطر المبارك أو في أي موعد آخر يتم الاتفاق عليه.
أما بشأن زيارتكم لمكة وما يتصل بها من مستلزمات المراسم من جانب الدولة المضيفة فإننا، وعلي أساس ما يجمعنا وإخواننا في المملكة العربية السعودية من وشائج الأخوة والاحترام المتبادل، سنتمني علي أخينا الملك فهد بن عبد العزيز، أن يوفر ما هو ضروري ومناسب لمثل هذا الأمر، مع العلم أننا لم نبلغه حتي الآن بمضمون رسالتنا هذه.
وتسهيلا وتحضيرا لمتطلبات اللقاء، قد ترون مثلما نري أن يتواجد في طهران من يمثلنا ويتواجد في بغداد من يمثلكم وأن تفتح خطوط الهاتف المباشر بين العاصمتين لتأمين الاتصالات اللازمة.
اللهم اشهد أني قد بلغت، والسلام عليكم صدام حسين بغداد في 26 رمضان 1410 ه الموافق 21 نيسان 1990 م
---
انتهت رسالة شيخ الإسلام الإمام «صدام حسين»!! ولا نظن أنها بحاجة إلي تعليق.. و.. كم من الجرائم ارتكبت وترتكب باسم الوقوف في وجه الصهاينة وتحرير فلسطين والقدس!!
---
من النقيض إلي النقيض تغيرت سياسة سوريا تجاه العراق عندما قررت أمريكا إسقاط نظام «صدام حسين» بالقوة العسكرية، فسوريا التي كانت تطمح بالتحالف مع إيران في إسقاط هذا النظام تبدل موقفها، فإلي جانب الفشل التام لكل ما خططت له من قبل، كانت قد «جرت في العالم دماء كثيرة» بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وأعلنت الولايات المتحدة ما أسمته دول «محور الشر» المصدرة للإرهاب ولم تكن سوريا بعيدة عن ذلك، بل كان اليقين الذي يحكم تحركات الرئيس «بشار الأسد» في عام الحرب علي العراق «2003» هو أن إسقاط نظام «صدام» سيعقبه فورًا إسقاط النظام السوري.. لهذا تبدلت المواقف.. ويقول «عبدالحليم خدَّام»:
«في تلك المرحلة استقبل بشار الأسد عددًا من القياديين العراقيين وبينهم الذين كانوا الأكثر عداءً للنظام في سوريا وإيران، ومن هؤلاء علي حسن المجيد وطه ياسين رمضان، فقد انتقل النظام من مرحلة العمل لإسقاط النظام العراقي إلي مرحلة الدفاع عنه في المحافل العربية والدولية».
ويشير «خدام» هنا إلي ما يعتبره أبلغ ما يعبر عن تلك الحالة الانقلابية، وهي زيارة رئيس الوزراء السوري «محمد مصطفي ميرو» إلي بغداد قبل الحرب بفترة قصيرة، حيث اجتمع مع الرئيس العراقي وقدم له سيفًا دمشقيًا وألقي كلمة جاء فيها: «أقدم لكم هذا السيف الدمشقي مؤكدًا لكم أننا معكم وأن العدوان علي العراق هو عدوان علي سوريا».
وبدءًا من مارس 2003 تكررت زيارات الرئيس «بشار» و«خدَّام» إلي طهران ولقاءاتهما مع آية الله «علي خامنئي» والرئيس «محمد علي خاتمي» في محاولة لضم إيران إلي وجهة النظر السورية التي كانت تري أن الشعب العراقي- كُرهًا في أمريكا- سيقاتل مع صدام.. وهو التقدير السياسي السوري الذي- كالعادة- اتضح خطأه.. واختفي نظام «صدام حسين» تمامًا.
---
المؤكد الآن أن الخلل الفادح في تقديرات قادة سوريا «الرئيس حافظ ثم الرئيس بشار» هو أن ما يعتبرونه نقطة التأمين الرئيسية للنظام هو نفسه الذي يمكن أن يكون نقطة الانهيار.. والمقصود هنا هو الوجود السوري في لبنان عسكريًا ومخابراتيًا وسياسيًا وعبر «حزب الله» وهو ما وصفه «خدَّام» بأنه «إمساك بلبنان وتوجيه لسياسته الخارجية».. أي ببساطة إسقاط سيادته..
وبما يؤكد خطورة السياسة السورية تجاه لبنان علي النظام السوري نفسه.. وفي أخطر فصول الكتاب الذي نحن بصدده «الفصل الأخير» يقول «عبدالحليم خدام»:
«اشتدت حملة المعارضة اللبنانية في السنة الأخيرة من رئاسة العماد «إميل لحود» (2004) ضد الوجود السوري في لبنان، وضد العماد لحود الذي كان علي رأس النظام الأمني اللبناني السوري في البلاد، كما امتدت الحملة إلي خارج لبنان في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.. في تلك المرحلة بدأت الأجهزة الأمنية السورية واللبنانية العمل علي تمديد رئاسة الرئيس لحود مدة ثلاث سنوات مما زاد من توتر الأوضاع في لبنان كما اشتدت الحملة الخارجية ضد التمديد.
كانت الأجواء في لبنان تنذر بانفجار كبير بسبب الممارسات التي كانت تمارسها أجهزة الأمن السورية واللبنانية، وهيمنة هذه الأجهزة علي الدولة ومؤسساتها وعلي الحياة السياسية واستخدام وسائل لم تكن مسبوقة في لبنان».
ويقول «خدام» نصًا: «كانت الخطيئة الكبري التي ارتكبها الرئيس السوري بشار الأسد، اتخاذه قرارًا بالتمديد للرئيس لحود ثلاث سنوات وممارسته شخصيًا الضغوط علي النواب للموافقة علي تعديل الدستور رغم التحذيرات العربية والدولية، وكان قد أُبلغ أن التمديد سيؤدي إلي صدور قرار من مجلس الأمن استنادًا إلي الفصل السابع يلزمه الخروج من لبنان.
رغم تلك التحذيرات والنصائح التي قدمتها له فقط أعطي توجيهاته للسيد نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني للسير في عملية تعديل الدستور، كما قامت أجهزة الأمن السورية واللبنانية بالضغط علي النواب لتأمين الأكثرية الدستورية.
وفي مطلع أيلول «سبتمبر» اتخذ مجلس النواب اللبناني قرارًا بتعديل الدستور والتمديد للرئيس «إميل لحود» ثلاث سنوات، ولم يمض يوم واحد حتي اجتمع مجلس الأمن واتخذ القرار 1559 الذي ألزم الحكومة السورية بسحب قواتها من لبنان ووضع سوريا تحت رقابة المجلس.. كان لصدور القرار صدي كبير في لبنان وفي المنطقة، غير أن الرئيس السوري ووزير خارجيته لم يدركا مباشرة خطورة هذا القرار إلا بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري.. وبعد صدور القرار تم تكليف الرئيس رفيق الحريري بتشكيل الحكومة الجديدة، وبعد أيام من نشاطه لتشكيل الحكومة وضعت عراقيل في وجهه من قبل الجانب السوري والرئيس إميل لحود مما دفعه للاعتذار».
---
ويصل «عبدالحليم خدَّام» إلي الحدث الأخطر:
«في الرابع عشر من شباط «فبراير» عام 2005 فوجئ اللبنانيون بانفجار هائل في بيروت أدي إلي وفاة الرئيس رفيق الحريري ومجموعة كانت معه، بالإضافة إلي عدد من المواطنين اللبنانيين.. كان لعملية الاغتيال صدي واسع لم يتوقعه الذين قرروا الاغتيال ونفذوه في لبنان كما في الساحتين العربية والدولية.. بعد الاغتيال مباشرة توجهت أصابع الاتهام باتجاه النظام السوري، وشكل مجلس الأمن لجنة استكشاف ثم أصدر قرارًا بتشكيل لجنة التحقيق الدولية لكشف الحقيقة ومعاقبة الذين قرروا الجريمة وخططوا لتنفيذها ونفذوها.
وكان من أبرز نتائج الاغتيال بروز ثورة الاستقلال والسيادة في لبنان والتي قادها تحالف بين المعارضة للوجود السوري في لبنان وبين أنصار الرئيس رفيق الحريري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط.. والتي أطلق عليها مجموعة الرابع عشر من آذار وسبب إطلاق هذا الاسم أن احتفالاً كبيرًا أقيم بمناسبة مرور شهر علي اغتيال الرئيس رفيق الحريري.. ولابد من الإشارة إلي أن حزب الله والقوي ذات الصلة بأجهزة الأمن السورية نظمت مهرجانًا في الثامن من آذار (مارس) للدفاع عن النظام السوري»!!
---
ونأتي إلي فصل الخطاب في الشهادة الموثقة الخطيرة التي يقدمها لنا «عبدالحليم خدام» حيث يعطي تقييمه الحالي للنظام السوري:
«وجد الرئيس بشار الأسد نفسه في عزلة تامة عربية ودولية، كما شعر بجدية مجلس الأمن في كشف الحقيقة، فاتخذ قرارًا مصيريًا بالارتباط بالجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد أن تشكلت لديه القناعة أن نظامه مهدد بالسقوط».
ويقول «عبدالحليم خدام» صراحة أن الرئيس «بشار الأسد» انتقل في ربط نظامه بإيران من مرحلة «التحالف» إلي مرحلة «الاندماج السياسي والأمني» وفقًا لأربعة دوافع أهمها:
- الارتباط بإيران يساعد النظام السوري علي استخدام «حزب الله» في تفجير الأوضاع بلبنان، إذا سار التحقيق الدولي في مقتل «الحريري» باتجاه إدانة النظام السوري فهو هنا يسعي لتحقيق معادلة «كشف الحقيقة سيكون مقابلها تفجير لبنان».
- الارتباط بإيران والتعاون معها في العراق يشكل قوة ضغط علي الأمريكان تمكن النظام السوري من المساومة حول ضمان استمراره.
- الارتباط بإيران يسهل تعميق العلاقات مع حركة «حماس»، وبالتالي يساوم أيضًا بالورقة الفلسطينية من أجل حماية النظام.
---
في نهاية كتابه يطرح «عبدالحليم خدام» أسئلة خطيرة:
- هل يمكن إخراج النظام السوري من دئراة التحالف مع إيران؟
- وماذا يمكن أن تقدم الدول الساعية لتفكيك هذا التحالف إذا سار الرئيس السوري في هذا الطريق؟
- هل ستضمن له انسحاب إسرائيل من الجولان دون فرض شروط؟
- هل تضمن استمرار النظام مع استمرار سياسة القمع ومصادرة الحريات وانتهاك حقوق الإنسان؟
- هل ستقدم له مساعدات اقتصادية تمكنه من تجاوز الحالة الاقتصادية السيئة في البلاد؟ يجيب خدام بأن الرئيس «بشار الأسد» يدرك الآتي:
1- أنه ليس في نية إسرائيل الانسحاب من الجولان إلا وفق شروطها التي رفضها والده وفي مقدمتها قضايا الأمن والمياه.
2- لن يستطيع الرئيس «بشار» قبول ما لم يقبله الرئيس «حافظ» الذي لم يوقع اتفاقية سلام حتي لا يحمل الطائفة التي ينتمي إليها وهي أقلية في البلاد، المسئولية التاريخية لمتطلبات السلام مع إسرائيل.
3- يدرك الرئيس «بشار» أن حالة اللاسلم واللاحرب التي اختارها الرئيس «حافظ» هي الضمانة لاستمرار النظام، إذ تمكنه من استخدام وسائل القمع ومصادرة الحريات وإلغاء الحياة السياسية وترهيب المواطنين في ظل قانون الطوارئ تحت ذريعة «حالة الحرب».
4- يدرك الرئيس «بشار» أن التخلي عن إيران يعني تحول «حزب الله» إلي موقع العداء لسوريا وبالتالي تحول لبنان إلي ساحة معادية للنظام.
5- يدرك أن الذين يعملون علي تفكيك هذا التحالف لن يكون باستطاعتهم تقديم ما يغنيه عن التحالف، فلن يقدموا له لبنان ولا الساحة الفلسطينية ولا العراق، فتزداد صعوباته الداخلية وتزداد سرعة الانهيار.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.