أصبح التوربيني شبحاً يهدد الأطفال مثل أمنا الغولة في الحواديت القديمة، وهرش الجميع رؤوسهم في ذهول وصحوة مفاجئة حول أطفال الشوارع الذين يغتالون ويغتصبون ويقتلون كالحشرات. يا حرام، ويا للقسوة، هكذا تنادي الكثيرون ابتداء من أعضاء أجهزة الأمن التي من المفترض أنها تحقق الأمن والأمان لجميع المواطنين، بما في ذلك الأطفال، وحتي هؤلاء المواطنين الذين يحرصون علي توصيل أولادهم إلي مدارسهم في الصباح من جماهير شركات توظيف الأموال والأصولية الوهابية مع أنهم كلهم شاركوا في صناعة هذه الظاهرة المتنامية ظاهرة أطفال الشوارع التي تمضي وتعامل مثل الكلاب الضالة في مجتمع فقد توازنه الاجتماعي والاقتصادي. وفي جميع أو غالبية التحقيقات الصحفية والأحاديث التليفزيونية الكثيرة والمطولة حول تلك القضية التي تفجرت فجأة لم تتجاوز في أغلبها أحاسيس الشفقة والرأفة ومحاولة جمع التبرعات لبناء المزيد من بيوت الأيتام والإيواء، رغم أن سمعة غالبية هذه البيوت والفساد المنتشر فيها تزكم الأنوف. إن قضية تعزيز وحماية الطفل وتهيئة الظروف الملائمة لإرساء دعائم راسخة لمجتمع أفضل ينعم فيه الأطفال بالحماية والرعاية الكاملة، ترتبط بالظروف الاقتصادية والاجتماعية القاسية التي تعيشها بلادنا وكثير من بلدان العالم الثالث. وإذا كنا نتحدث عن حوالي نصف مليون طفل من أولاد الشوارع في مصر، فإن تقديرات الأممالمتحدة تذهب إلي أن هناك في عالم اليوم حوالي 15 مليون طفل مشرد يعانون في المناطق الملتهبة في العالم خاصة في الشرق الأوسط، إضافة إلي قرابة خمس ملايين من الأطفال الذين يدفعون إلي العمل الشاق وهم في سن صغيرة نتيجة ظروف الفقر وانعدام الرعاية في مجتمعاتهم. والأطفال في هذه الدول المنكوبة بانعدام أسس العدالة الاجتماعية ورعاية الأطفال، يعيشون في ظروف قاسية وغير طبيعية وفي مجتمعات يسود أغلبها الفقر والحرمان، إضافة إلي صناعة القتل اليومي التي يشاهدونها وتجري علي مرآهم ومسمعهم في فلسطين والعراق وأفغانستان ولبنان والنيجر والسنغال وباكستان. إن هؤلاء الأطفال في هذه المجتمعات ليسوا محرومين فقط من ممارسة طفولتهم وبشكل صحي في الحصول علي التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية، بل إنهم ينشأون في مناخ مفعم بالقسوة والعنف والكراهية، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلي مخاطر لا تهدد مجتمعاتهم فقط، بل تزيد من مناخ العنف والجريمة المنظمة. والواقع أن سرقة الطفولة واستغلالها كانت دائما إحدي السمات الرئيسية في تقسيم العمل الدولي الجائر منذ بدأت الرأسمالية الفجة انطلاقاتها الأولي في القرن التاسع عشر وحتي القرن العشرين واتخذت سرقة الطفولة أشكالا متعددة إن كان محتواها النهائي هو حرمان الأطفال من طفولتهم، من حياة طبيعية حيث تتوافر لديهم الرعاية التعليمية والصحية والاجتماعية. ومن هذه الأشكال الدفع بالأطفال إلي العمل الشاق والمبكر في المصانع والمزارع والخدمة في المنازل تحت ظروف عمل قاسية، أو تشكيل عصابات منهم للسرقة والنهب ولحساب رؤساء عصابات محترفين، وهو ما فضحته أعمال أدبية وروائية خالدة في انجلترا والولايات المتحدة في فترات سابقة لكتاب ومفكرين بارزين من أمثال تشارلز ديكنز وجون شتاينتك ورتشارد راثيا ومارك توين. وهذه الظروف القاسية هي التي أثارت الضمير العالمي لتنمية الوعي بحقوق الطفل، تلك المعركة التي تواصلت علي مدي القرن العشرين كله حيث تمت في نهايته صياغة الوثيقة العالمية لحقوق الطفل واعتبار العقد الأخير من القرن العشرين هو عقد الطفولة. وقد أشار كثيرون في قمة الطفل التي عقدتها الأممالمتحدة إلي أن ما تضمنته وثيقة الطفل من أهداف نبيلة يأتي في تناقض شديد وصارخ مع الأوضاع الحقيقية التي يعاني منها اليوم الملايين من أطفال العالم الثالث الذين يدفعون الثمن غاليا نتيجة الفقر والتخلف والاستنزاف المركز المفروض علي تلك المجتمعات التي يعيشونها، وهي المجتمعات التي تركز فيها السلطة والمال في أيدي مجموعة قليلة تفرض أنظمة فردية ودكتاتورية وتدخل في صراعات عرقية أو مذهبية ووثنية، وهي المجتمعات نفسها التي مازالت تفرز حتي الآن أطفال الشوارع. وهناك عدد من القسمات المميزة لتلك المجتمعات مثل الانخفاض الشديد لمستوي دخل الفرد والارتفاع الشديد لنسبة الأمية والتدني الشديد في وجود شكل من أشكال الرعاية الصحية والاجتماعية والحد الأدني من الاحتياجات الاقتصادية في الأكل والملبس والسكن والعمل. لقد حاول عدد من المراكز البحثية ذات الاتجاهات العنصرية في ألمانيا وأمريكا إرجاع التخلف والفقر في المجتمعات النامية وافراز أطفال الشوارع إلي أسباب تتعلق بالجينات والأصول العرقية عند تأييدها التخلف علي أساس انه موروث وليس مكتسباً. بينما حضت كثير من الدراسات ومراكز الأبحاث العالمية هذه النظريات العنصرية الخطرة، فظاهرة أطفال الشوارع وعصابات المشردين كانت موجودة في انجلترا وفرنسا وألمانيا وأمريكا وبشكل مزعج في مرحلة من المراحل، وتذهب هذه الدراسات التي أجراها علماء كبار من دول الشمال أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية هي التي تلعب الدور الحاسم في تهيئة الجو والمناخ الإنساني. وتؤكد هذه الدراسات أيضا أن سرقة الطفولة وانتهاكها في غالبية دول العالم الثالث، سواء من خلال اشراكهم في الصراعات الملتهبة والساخنة الدائرة في مناطقهم، أو بحرمانهم من حقوقهم الطبيعية في التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية هي جزء من الاستغلال المكثف الذي تتعرض له هذه المجتمعات. وهذه المجتمعات تقع أسيرة نوعين من الاستغلال: الاستغلال الخارجي في عالم تسيطر فيه الرأسمالية الجامحة التي تعمل علي فتح الأسواق بلا قيود والمنافسة الشرسة بلا حدود والخصخصة الكاملة لوسائل الإنتاج، واستغلال داخلي يتمثل في سيطرة نظم فردية ودكتاتورية حيث تنحصر السلطة في تحالف ضيق بين الحكام ورجال الأعمال. وحتي تتحقق العدالة المفتقدة، ستظل الأسماك تشرب القهوة في البحار والمحيطات بينما لا يجد الأطفال اللبن. تلك هي الأبعاد الحقيقية لأطفال الشوارع. فمن يجرؤ علي الإصلاح..؟!